قطعت التذكرة وحزمت أمتعتي، اليوم هو يوم رحلتي في الساعة التاسعة مساء والتوجه للمطار في الساعة السابعة لقص «البوردينغ» فاجتاحتني عندئذٍ موجة من الكآبة فسوف أضطر لأن أقضي ساعات وإن كانت قليلة قبل السفر من مطار يفتقد لأدنى معايير الراحة والرفاهية والمتعة.. بعد مرور بضع ساعات توجهت فعليا إلى المطار، حتما سأجد تلك الزحمة والفوضى المرورية أمام الأبواب، لابد أن تمارس شيئا من العنف و»التدفيش» لتستطيع أن تنادي أحد العمالة المتواجدة ليحمل لك حقائبك، وقد يكرمك حظك بالعثور على واحد «لهلوب» ويوصلك بسرعة إلى الكاونتر بطرق شرعية حينا وطرق غير شرعية أحياناً أخرى.. إلى أن تصل بعد عناء إلى أحد الكاونترات فيطلب منك الموظف بجفاف وحدة الجواز والتذكرة، فتعتقد أنك أسأت له وأنت لا تقصد، فتمد له الجواز والتذكرة مرفقة بابتسامة عريضة محاولا تلطيف الأجواء، تبادره « تفضل» ثم تكتشف أن الموظف لا ينظر لك أصلاً، وهكذا هو الحال مع جميع المغادرين، فأنت لست صديقه أو قريبه مثلا حتى يبادرك بالسلام والترحيب، كما أنك لست راكب درجة أولى -لا سمح الله- حتى يوليك اهتماماً خاصاً.
الآن تنتهي من تلك الطوابير الطويلة بحبور فتتوجه نحو موظف الجوازات فتكتشف أنه ليس أفضل حالا منهم، فتستشعر من ملامح وجهه الهم والحزن والاكتئاب، وستشك لوهلة أنك ممنوع من الكلام وهو كذلك حين ينهي الإجراءات بصمت مخيف، لا مرحبا، ولا الله معك، أو حتى توصل بالسلامة! ربما لأنه يريد أن يوحي لك بالجدية ويصنع لنفسه هيبة، وهو لا يعرف أن الهيبة والاحترام تتجلى أمام العلاقات الودودة النقية التي تنشأ في خلال ثوانٍ معدودة.
ثم تذهب لتضع حقائبك في جهاز التفتيش، وتمضي حزيناً مكتئباً باحثاً عن مقعد حديدي لتجلس عليه وتراجع بحيرة وذهول أخلاقيات هؤلاء، وتلك العلاقات الخاطفة التي كونها معهم وفشلوا فيها فشلا ً ذريعاً، حينما أخفقوا في إحراز أهداف في مرمى الود والمحبة، ليس لأن دفاعك قوي، بل لأن هجومهم ضعيف ومتهالك.
في أمريكا يقال: إن توظف شخصا له ابتسامة جميلة أفضل بمئات المرات من أن توظف بروفيسور في فن التسويق.. ويقولون في الصين: من لا يبتسم فلا ينبغي عليه أن يفتح دكانا. الأهم من ذلك أن الإسلام منح الابتسامة قيمة عظيمة حين قال معلمنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (تبسمك في وجه أخيك المسلم صدقة) لأنها ببساطة تفتح الأبواب المغلقة، وتكسب القلوب وتنسج حبالا خفية من الود، أما (التكشير) فإنه أسرع وصفة لهدم جسور التواصل وتنفير الآخرين منك.
لا أدري: لماذا تعتبر الوجوه الصامتة المكفهرة المكشرة علامة تجارية في مطار الملك خالد وغيرها من مطارات المملكة؟
ولا أعلم: لماذا تنعدم لدى موظفينا أبجديات اللطف وأخلاقيات استقبال وتوديع المواطنين؟
فيندر أن ترى موظفاً بشوشاً صاحب لسان لطيف، يخلق عبارات جملية تعلق في أذهان الناس، وتشكل لديهم انطباعاً جيداً عنه وعن أخلاقيات الموظف السعودي بشكل عام.
كم من زائر عربي وأجنبي تطأ أقدامه أرض مطاراتنا التي بتنا نهضمها بصعوبة وعسر حين نعود من مطارات حديثة ومتطورة في التقنيات والخدمات والأخلاقيات كذلك في بلاد أقل من إمكانياتنا بكثير، ويصدم من تلك الوجوه العابسة التي تستقبله بعد أن سمع عن كرم الضيافة وروعتها عند العرب؟
أخيرا.. أفهم ما يعانيه إخواننا الموظفون في المطارات من ضغط عمل مقابل رواتب متدنية وشح في الحوافز التي قد تبدي يأسا وإحباطا واضحا على وجوههم ونفوسهم، لذا، أناشد المعنيين في وزارة الداخلية أن يولوا اهتماما أكبر لهم ليقدموا واجبهم ومسؤوليتهم الاجتماعية والوطنية بشكل أجمل؛ فهم الواجهة الحية أمام الزوار والمواطنين.
نبض الضمير:
(ليكن وجهك بسّاماً وكلامك ليناً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة)