لي مع رمضَانَ ذكرياتٌ طريفةٌ يتحدَّى الكثيرُ منها النسْيانَ يعود بعضها إلى مرحلة الطفولة المغرقة في البراءة، أُوردُ فيما يلي قُطُوفاً منها:
* بدأتُ تجربةَ الصَّيام تَدرُّجاً في سنَّ السابعة تقريباً، وكنتُ وقْتَئذٍ أعيشُ في كَنَفِ جَدّي (لأُمي) - رحمُهما الله - بمزرعةٍ شَرقيّ مدينة أبها، وكان جدّي يحثُّني على الصيام ما استطعت، فأُقبلُ عليه تارةً، وأتوارى عنه أخرى، تَكيَّفاً مع وضْعي الصحي الذي لم يكن يومئذ في أحسَنِ أحواله، وأذكر في هذا السياق أنّني عُدْتُ من المزرعة إلى المنزل ظهرَ يوم رمضاني قائظٍ من بعد جدّ ولهوٍ جهيدين، وكان (زيرُ) الماء أولَ ما وقَعَتْ عليه عيَنايَ في رُدْهةِ البيت (الباسوط).. وفي غَفْلةٍ من رقابةِ الأعيُنِ النائمةِ، ألفيتُ نفسي أتّجهُ صَوبَ ذلك (الزير) وأُطْفئُ عَطشي منه حتى ارتوْيتُ، ثم أُواصلُ الصَّيامَ إلى الليل، وكأنّ شيئاً لم يكن!
* كنتُ أعّرف رمضَان المبارك في تلك المرحلة العمرية المبكرة تعريفاً لا يخلو من الطرافة بأنه شهرٌ أوّلهُ حْرمانٌ من الزَّاد، وأوْسطُه حُلمٌ بفرح العيد القادم وآخرُه احتَفاءً بكُسْوةِ العِيد فالعيد نفسه! ومشَاركةُ جدَّي - رحمه الله - مباهجه في تلك القرية المتربعة على ضفاف وادي أبها وما يتخللها من جولات سيراً على الأقدام.. أو على (مْتنَ) حماره العنيد!
* لم يكن مجتمع (مشيّع) الرّيفيّ وقتئذٍ يَعرفُ السَّهر في رمضان، لأنه لم تكن هناك وسائل لهْوٍ تُلهيه.. كانت طقوسُ الفلِاحَة تُوجِبُ علينا جَميعاً الإستيقاظَ مبكَّرين في رمضاَن وفي سواه، وكان أفرادُ الأسرةِ كلَّها، بدْءاً بجدّي الشّيخ، وانتهاءاً بحفيده الصَّغيرِ بُنْيةٍ وسناً كنا جمعياً نشكلّ (فريقَ عمل) يتَقَاسمُ أعضَاؤُه الوظائفَ اليومية، بدْءاً برعْيِ الأغنامِ، مرُوراً بسُقْيَا الزَّرع، وانتهاءً بخدمة المنزل!
* وفي ضوء ذلك المشهد (البانورامي) لمجتمعٍ ريِفيّ بسيطٍ.. فـي رُقْعتِه وحَركَتِه ومَعاشِه وعَدَدِ أفَرادِه، لك أن تَتَصوَّرَ مجتمَعنا (العولمي) اليوم.. الذي باتَ الانتقَالُ من حيَّ إلى حيَّ في مدينة منه كالرياض أَرقاً وصُدَاعاً يومياً، خاصةً إذا كان الإنتقالُ فـي ذُرْوةِ صَحْوةِ المدينة ليْلاً أو نَهَاراً واشْتغالِ أهْلِها بتكاليفِ الحياة!
* اليوَمَ.. يَسِيرُ قطارُ الحياة بسُرعةٍ مذْهلةٍ يُخْشَى من فَرطِ سُرعتِه أن يَنْسَى المرءُ منا خُصُوصِيّةَ هذا الموسم الروحي العظيم وقُدسّيتَه وجَماَله! نَعمْ لم يعُدْ مفهومَ رمضان عندي قَاصِراً على حِرْمانِ النَّفسِ من شَهَواتِها، كما كان الأمرُ في غَابِر الأيّام، ولم يَعُدْ ثوبُ (العيد) ذروةَ فَرحِي وغايتَه! تغَيّرتْ الحياةُ، أساليبَ وغَايَاتٍ، لأنّنا تغَيّرّنا بفِعْلِ عوامل ٍعديدةٍ باتَتْ أكثرَ تَعْقِيداً!
* تسألُني بعد ذلك : ما الفرقُ بين رمضَانَ الأمسِ ورمضَانَ اليوم، فأقول لك.. كالفَرْق بين ظَمأِ أطْفأْتُه وأنا صَغِيرٌ بشَربةِ ماءٍ فـي غَفْلةٍ من عَينٍ، ولحظةِ فَرحٍ أتُوقُ إليها اليوم كَيْ أُطفِئَ بها (ظَمَأً) الحنين إلى تلك الأيام الخالية ومرابعها البريئة ثم.. التغلّب على الإرهاص المعنوي الذي فرضَتْهُ نوائبُ هذا الزمان!
* وفي رمضان، أكْثَر من سواه، يشُدُّني الحنينُ إلى ذكرى سيّدتي الوالدةِ - طيّب الله ثَرَاها -، فقد إعْتَدْتُ أن أُمضِيَ أياماً من عشْرِه الأَواخِر وعطلة عَيدِه السعيد إلى جوارها - رحمها الله -، وكَنتُ أسْعدُ بحَدِيثهِا وأفْرحُ باصْطِحَابِها على مَتْن سيَّارتي في نُزُهَاتٍ قصيرةٍ قبل الإفطار، أو بعدَ صَلاةِ الفَجْر، كنْتُ أحدَّثُها وتحدّثُني عن ذكرياتٍ مختارةٍ من الماضي.. معَها وَبعيداً عنها، وكنتُ اَتعمَّد ذكِرَ مواقفَ فيها من الطَّرافَةِ مايُدْخِلُ السّرُورَ إلى نفسِها، فَتضْحَكَ واْبتسِمُ أنا فَرَحاً بضِحْكِها، ثم تَختمُ هي الحَديثَ بدُعاءٍ لي صَادرٍ من أعماقِ الأمُومةِ السَّامية! وكنت أشعرُ في تلك اللحظة بنَشْوةِ فرحٍ يُؤَطَّرهُ الحبُّ، وأنعمُ بدُعَائِها لي.. الذي لا ينْضُبُ له معينٌ، ولذا، أشْعرُ الآن أنّني افْتَقدُ في رمضان، رغْمَ قُدْسيّتِه (صَحوةً) عاطفيةً أثيرةً على نفسي ساكنةً في وجْدانِي، كانت أمي هيَ بدايتَها ونهايتَها!