قد يكون أكثرنا تشاؤماً مطلع هذا العام، حينما اندلعت ثورات الشعوب العربية، وبعد هروب رئيس عربي من بلاده، وتنحي آخر عن عرشه، يظن أن الأمر لن يتجاوز عاماً على الأكثر، فرئيس انتهى أمره خلال 16 يوماً، وآخر بعد 25 يوماً، يعني أن الأشهر القليلة كفيلة بإصلاح الحال، وتنظيم انتخابات رئاسية نزيهة، لكن ما يحدث الآن في مصر من عدم استقرار أمني، واستمرار إعلان حظر التجول ثم تعليقها ثم إعلانها.. في تونس، إنما هو أمر مقلق، وقد يزداد القلق حينما نقرأ تصريحاً لوزير الخارجية البريطاني يقول فيه إن المكاسب الديمقراطية من ثورات الشعوب العربية لن تحسم أمور الصراعات الطائفية والأزمات الاقتصادية، مشيراً إلى أن كل دولة لن تحل أمورها بدقة، كما لو كنا أمام لعبة كمبيوتر تنتهي حين يشعر اللاعب بالملل!
حتماً نحن ندرك أننا لسنا أمام برنامج تلفزيوني سننصرف بعد ساعة من مشاهدته كي نلهو أو ننام، ولسنا أمام لعبة كمبيوتر نأكل «شيبساً» حتى نملّ منها فنخرج في نزهة.. حتماً الثورات في التاريخ لها ضريبتها التي يجب أن تدفعها الشعوب، من فوضى وانفلات أمني وتعطل مصالح البلاد الاقتصادية، وقد تحمل الأيام القادمة الكثير من المفاجآت المنتظرة في مصر وتونس، وغيرهما من بلدان تعطلت ثوراتها، لكن ما يجعل تصريح وزير الخارجية البريطاني يحمل بعض الحقيقة، هو توجه شباب الثورة في مصر إلى المطالبة بمحاكمة المشير طنطاوي أيضاً، فهل بالفعل ستزداد الفوضى وتتعطل الانتخابات، وهل سينظر المصريون جيلاً كاملاً كي تتحسن الأوضاع من جديد؟
في تجارب الدول المتقدمة، التي عانت من ويلات الحروب والثورات التي تنشد الحرية، كانت المكاسب التي قطفتها هذه الدول تستحق كل هذا العناء والانتظار، ولا أعتقد أن دولة كمصر عانت منذ ثورة الضباط 52 والحروب المتتالية في الصراع العربي الإسرائيلي، يضيرها أن تتحمل المزيد من العناء والتضحية كي تحصد ثمرة هذه الثورة الشعبية المباركة.. فالثورة الفرنسية التي استمرت زهاء عشر سنوات، ومرت بمراحل ثلاث، حتى بلغت الاعتدال، وبقيت تعاني لعشرات السنوات حتى أصبحت أنموذجاً للثورات الأوروبية، مما يعني أن هذا الغضب الشعبي في مصر، وطلب محاكمة المفسدين والمنتفعين بطرق غير قانونية، سيصل إلى مرحلة النضج والظفر بدستور وانتخابات، بل وستصبح مصر هي أنموذج الثورات في الشرق الأوسط، وحتى لو فقدت مؤقتاً مكانتها السياسية كدولة ذات تأثير وثقل سياسي، فهي ستعود إلى الواجهة بثوب جديد، متزن، عقلاني، فلا يعني فشل جانب من الثورة، وتعثرها في جوانب أخرى، يعني فشلها، ولا يعني تصريح دولي خبير، كتصريح وزير الخارجية البريطاني، المزيد من الإحباط والانكفاء، فلا أعتقد أن عاقلاً في مصر أو العالم العربي، يتوقع أن تحسم مصر أمر الديمقراطية في غضون أشهر أو عام واحد مثلاً، ولكن كل عقلاء العرب شعوباً وحكومات، تتمنى أن تخفّ نبرة التشنج الشبابية في مصر، وتنظر الآن إلى ترسيخ الأمن أولاً وأخيراً، فهو العتبة الأولى نحو ترسيخ الديمقراطية واحترام الدستور، فلا قيمة لأي شيء في حالة الانفلات الأمني وفوضى الاتهامات والتخوين وما شابه.
أخيراً، أتمنى لكم صياماً مقبولاً، وأعود إليكم - بإذن الله - مطلع شوال القادم.