الفضاء العام أو المجال العام الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني يورقن هابرماس هو المساحة التي تقع بين «العام» الذي تمثله المؤسسات الاجتماعية وبين «الخاص» الذي يمثله الفرد أو الأسرة.. وفي هذه المساحة ينشأ الخطاب العام public discourse وكذلك يتشكل الرأي العام..
ويتقاطع العام والخاص عند بعض القضايا، ولكنه قد لا يتقاطع في قضايا أخرى.. فكلما كانت القضايا محورية وذات أهمية وتصب في الشأن العام، أصبح هذا التقاطع أساسياً بين العام الذي يمثله المركز السياسي (حكومة، برلمانات، قضاء) وبين الخاص الهامشي كما تعكسه مؤسسات المجتمع المدني وبعض المنظمات في المجتمع إضافة إلى الأفراد.. بينما القضايا الروتينية قد لا تستدعي إعطاءها مساحات في الفضاء العام، فينوب المركز السياسي عن باقي مؤسسات المجتمع والأفراد في اتخاذ قرارات اعتيادية ليست ذات شأن مهم في المجتمع..
والجدل الذي يحدث حول قضية وينشغل فيها الرأي العام هو الفضاء العام public sphere الذي ذكره هابرماس ووضعه كمصطلح عام 1962م في كتابه الشهير «التحولات البنيوية في المجال العام»، وعادة تتطلب بعض قضايا المجتمع جدلاً سياسياً أو اجتماعياً يتشارك فيه ويتداخل العام والخاص، بما يؤدي تشكيل رأي عام في المجتمع نحو تلك القضية أو ذلك الموضوع.. وفي خضم هذا الجدل يصبح معيار الشرعية في القضايا هو المنطق والعقل والتبرير وليس تدرجات أو ظلال السلطة، فيتراخى دور السلطة أمام تنامي وتطور الجدل العام في موضوعات النقاش المجتمعي.
وتلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً -سواء سلبي أو إيجابي- في تهيئة ظروف الجدل السياسي والاجتماعي في موضوعات المجتمع المختلفة. وبينما يرى بعض الباحثين أن وسائل الإعلام الغربية على وجه الخصوص - في إطار نقدهم لممارساتها في المجتمعات الرأسمالية - لها دور سلبي في كونها تسعى إلى تضليل الرأي العام والتشويش على الموضوعات التي تتناولها.. أو من خلال دورها المتعمد في تهميش قضايا على حساب قضايا أخرى في المجتمع.. ولكن الباحثين الذين نظروا إلى الإعلام الجديد بشكل خاص في السنوات الماضية يرون أن للإعلام - بصورته الجديدة - دور إيجابي كبير في دعم الجدل السياسي والاجتماعي في المجتمع، والذي يؤدي إلى ترشيد القرار العام ونفض غبار ترهل المؤسسات واستبعاد أو تقليص تفكيرها المصلحي في اهتماماتها ومصالحها الطبقية أو الفئوية أو الفردية.
الفضاء الاجتماعي الجديد الذي أوجدته تقنية المعلومات والاتصالات أعطي معنى جديداً لمفهوم المجال العالم الذي كان يتحدث عنه يورقن هابرماس في الستينيات. وهناك شرطان يجب توفرهما لكل مواطن حتى يمكن أن تتحقق مشاركته في المجال العام عند تناول القضايا والموضوعات المجتمعية، وهما الحرية والمساواة.. ويقصد بذلك حرية الرأي، وما يتبع ذلك من فكرة المساواة بين الجميع حتى يتيح الفرصة لتناول كافة الموضوعات والآراء دون التفكير بتفضيليات لأفراد أو مؤسسات داخل المجتمع.. وهذه هي البيئة الديموقراطية التي توفرها المجتمعات الغربية بشكل عام.. وهي البيئة التي ساعدت على نمو ما يعرف بالرأي العام في تلك المجتمعات.
وبنفس المعايير التي وضعها هابرماس لبناء مجال عام في المجتمعات الديموقارطية والرأسمالية فيمكن سحب هذه المعايير على الوضعية القائمة حالياً في المجتمعات العالمية والتي أخذ الإعلام الجديد دوره ومكانته فيها بقوة متنامية. وهذه المعايير هي التي سرعت في حجم الانتشار والتأثير لوسائل الإعلام الاجتماعي بشكل خاص ضمن منظومة الإعلام الجديد. وهذه المعايير أو القضايا هي التي تساعد على نجاح مفهوم المجال العام في المجتمع، وهي:
1- المنزلة الاجتماعية: في خضم الجدل والتداول النقاشي في المجال العام، يتم في الأغلب التغاضي عن المنزلة الاجتماعية لأي فرد في المجتمع، ويتم التعامل دون النظر إلى تلك المنزلة، ويأتي ذلك نتيجة الرغبة في عدم تأثير تلك المنزلة أو الوضعية على آراء الآخرين عند تناول موضوعات وقضايا اجتماعية. وهذا ما يحدث في مختلف وسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يتم النقاش بحرية دون مراعاة المنزلة والوضعية الاجتماعية لأي شخص طرف في موضوع النقاش.
2- سلطة التفسير: في العصور الوسطى كانت سلطة تفسير الأحداث والمواقف هي من ممتلكات الدولة والكنيسة، وليس من حق أي فرد خارج نطاق هاتين المؤسستين أن يحاول تفسير الحياة ووقائع الأحداث في تلك المجتمعات. ومع تحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات ديموقراطية فقدت الدولة والكنيسة سلطة التفسير، وباتت في يد الرأي العام من المواطنين العاديين. وهذه الميزة هي التي ساعدت على تداول القضايا في المجال العام، وأصبح المواطن صاحب سلطة لتفسير ما يراه في أي موضوع. وقد وفرت وسائل الإعلام الجديد من شبكات اجتماعية ومنتديات ومدونات وغيرها سبل دخول المواطن في عمليات تفسير الأحداث والوقائع في المجتمع. وهذا ما نشاهده في المنتديات ووسائل الإعلام الاجتماعي حيث تخضع كل وقائع وأحداث العالم المحلي والإقليمي والدولي لتفسيرات فردية بكيفما طريقة شاء الفرد أن يعبر بها.
3- الشمولية: لا توجد استثناءات في الاستبعاد من المشاركة في الجدل السياسي أو الاجتماعي، وبالتالي أي فرد يمكن أن يشارك في هذه الجدليات. ومما ساعد على هذه الشمولية دخول الإعلام في صناعة القضايا والموضوعات وهي ذات توجهات جماهيرية عامة، ولا تقتصر على فئة دون أخرى أو جماعة دون أخرى. وقد كسر الإنترنت بتطبيقاته المختلفة حواجز اجتماعية كثيرة، وبنت مفاهيم نوعية في تداول النقاش والتحاور بين مختلف الناس دون تفريق بين جنس أو دين أو عرق أو لون أو طبقة.
وبدأت الأدبيات الإعلامية تعود إلى نظرية المجال العام public sphere في محاولة لإيجاد غطاء نظري تستظل به وسائل الإعلام الجديد بما فيها الإعلام الاجتماعي لدراسات الفيس بوك وتويتر ويوتيوب وغيرها، فقراءة المجال العام ليورقن هابرماس سيساعد على معرفة الأثر الكبير الذي تحدثه التقنية الاتصالية للإنترنت على المجتمعات.. واستطاع الإنترنت أن يوجد فضاءات جديدة لم تكن متوفرة لمواطني المجتمعات النامية على عكس توفرها لمواطني المجتمعات الديموقراطية حتى قبل وجود الإنترنت. وتقليص المساحة بين الفضاء العام (الرسمي) والفضاء الخاص (فضاء الفرد المواطن) وتأسيس فضاء جديد هو الفضاء العام من شأنه أن يحدث تغيرات نوعية تشهدها توالياً المجتمعات في العالم.
رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa