|
قبل سنوات كانت هذه المقبرة أبعد ما يكون عن مركز مدينة دير الزور، أما اليوم فقد التصقت بأطرافها حتى أصبحت جزءاً من معالمها، كان للمقابر هيبتها في السابق أكثر من اليوم، كنا حين نمر بجانبها ونحن في طريقنا إلى منطقة "المالحة" للتنزه ننظر إليها بخشوع وإجلال، وقد نترجل عن الدراجات الهوائية التي نستقلها احتراماً للأرواح التي نحسبها تحلق بسكينة صامتة فوق حجارة الآخرة..، يومها لم تكن روح السيدة هداية قد سكنت هنا.
كنا نمر بهذه المقبرة أيضاً، أثناء بحثنا عن طائر "الصعو" لاصطياده، هو طائر يشبه طائر الهدهد، إلا أنه بلا ألوان.. تماماً مثل التفاصيل الرتيبة لحياة ساكني هذه المدينة. كان صديقي ماجد يأبى اصطياد الطيور التي تقف على شواهد القبور يقول بأنها ملبوسة بأرواح الميتين.
لم يراودني شعور الرهبة من المقابر الآن وأنا أعود لزيارة دير الزور بعد عشرين عاماً.. يتلاشى الفزع من الموت حين يدنو العمر منه فبعد الأربعين تبدأ الدنيا تنزلق من بين أصابعك وأنت تنظر بحيادٍ إليها، أكثر ما تقدر فعله هو انتظار ما ستجود عليك به ذاكرتك من أيام مضت.
منظر القبور تحت الأعشاب الخضراء بدا غير ذي تأثير على المسافرين فلم يطرأ أي تغيير على ملامحهم حين انعطفت الحافلة إلى اليمين وصارت المقبرة أسفل أنظارنا فرمقناها ببرود.. ترى أي من هذه القبور يحنو اليوم على جسد السيدة هداية؟.
توقفتُ فجأة عند جدار قديم في حي الكجلان راحت عيناي ترسمان صورة كنت رأيتها في الثمانينيات، يومها كانت المدينة أصغر ولكن القلوب أكبر.. وراء هذا الجدار جرت أحداث حكاية غيرت مجرى الحي وأزاحت عن وجه ساكنيه قتامة الحزن التي خلفها مقتل عمار، حينها انشغل الناس بالحكاية وتناسوا قصة عمار ليس هربا من الواقعة، ولكن لأن الحدث الذي جرى كان أوسع من مساحة الذاكرة.
استدرنا (الراوي ونور) حول الجدار حتى وصلنا باباً حديدياً أسود أصم لا يزال منذ تركته قبل عشرين عاما غارقاً في الغموض.. خلف هذا الباب كانت تجلس السيدة هداية، تنظر إلى الناس بصمت ثقيل، وبالكاد ترد عليهم السلام. كانت في العقد السادس من عمرها، لها عينان داكنتان وقد جعلهما الكحل العربي ذو الخط السميك -الذي كانت تستخدمه كدواء- أكثر وحشة ورهبة..، جسمها الممتلئ وقامتها القصيرة جعلاها مثل جذع سنديانة مقطوعة. ترتدي الثياب السود منذ أن حلت بها كارثة وفاة زوجها ثم ابنيها اللذين فقدت أحدهما في حادث سير، بينما سافر الآخر إلى الخارج واختفت أخباره، ثم اكتملت فجيعتها بجنون ابنتها ملكة.
ظلت السيدة هداية معتزلة الناس لأكثر من عشر سنوات، لا أحد يزورها ولا تزور أحداً حتى اكتسى الغموض حياتها. ذات صباح استيقظ أهالي حي الكجلان على حدث غير مجرى أيامهم، كانت ثمة لافتة قُدَّت من كيس طحين أبيض معلقة على جدار سينما فؤاد المقابل لبيت السيدة هداية تماماً، وقد كتب فوقها عبارة: "انتخبوا هداية".
عندما توجهت السيدة هداية إلى المركز قابل الموظف طلبها بضحكات عالية، لم يصدق أن هذه المرأة الستينية البدينة -والتي بدت ملامح المرض واضحة على مشيتها الثقيلة المتأرجحة على الجانبين كجبل من الرمال المنهارة- جادة في ترشيح نفسها. كان الموظف قد اعتاد على نمط معين من المرشحين الجاهزين لذلك فاجأه منظر السيدة هداية التي رمقته بنظرة حزن صامتة كقائد معركة مهزوم:
> هل يوجد لديك في اللوائح ما يمنع ترشحي؟.
- بدا الليل بنفسجياً من خلال زجاج النافذة التي أطلت منها السيدة هداية، تترقب مشية الفجر الوقورة على صفحة الأفق البعيد..، تناثرت نجوم الصيف عشوائياً كعقد فرطته طفلة من حول جيدها.. كانت هذه الانتخابات هي فرصتها الأخيرة في فتح ثغرة من الأمل في جدار حياتها القاتم.. حياتها التي هوت فجأة من عليائها المترف كنخلة شامخة أزاحوها عن الدرب لشق طريق إسفلتي.
قبل دقائق من حلول الساعة الثامنة صباحاً حملت السيدة هداية ورقة الترشيح في حقيبة يد سوداء قديمة الطراز، وارتدت العباءة الديرية التي توضع على الرأس وتصل إلى الكعبين، ثم توجهت إلى مبنى المحافظة، بدا الموظف الذي التقته بالأمس وكأنه يترقب حضورها، فبادرها بفجاجة ودون مقدمات: "ترشيحك غير مقبول"..
كانت ثمة أخبار وصلت إلى المحافظة بأن السيدة هداية شبه مجنونة، وقد تسيء إلى الانتخابات إذا هي دخلتها.
أحست السيدة هداية بطيور ترجم رأسها بحجارة من نار، ولأول مرة منذ سنوات مديدة من الصمت تخرج عن وقارها صارخة في وجه الموظف: "وهل تظنني أخاف منك أو من الأكبر منك".
وضعت السيدة هداية المحافظ في اختبار كبير، هل يرضخ لتهديدها المشروع أم يلقي به في ركن الإهمال، فكر أن يناقشها بهدوء ليثنيها عن قرارها.
أحست السيدة هداية بماء بارد يطفئ جذوة الغضب التي كانت اشتعلت بداخلها، فلفت العباءة حول جسمها كمن أنهى جولة من حرب على مراحل: "عفوا سيادة المحافظ.. أنا ما زلت قادرة على العطاء".
دوى تصفيق حاد تلاه هتاف صاخب من كسار: "تنتخبوا مين؟"..، وتجيب المجموعة: "أم منصور".
أرخت السيدة هداية طرف العباءة من ذراعها فانسدل حريرها الأسود، فبدت كفارس يستعد للكر على خصومه، وتذكرت أنها وعدت المحافظ بعدم التطرق للسياسة، فاتجهت نحو منحى آخر...
جمهور السيدة هداية كان مزيجاً من عاطلين عن العمل ومربي حمام وخريجي سجون.. ومثقفين أيضاً.. كان القاسم المشترك بينهم هو "النكاية"، نكاية بالمرشحين المدعومين، ونكاية بالأموال الطائلة التي ينفقونها، ونكاية بالذين ينجحون كل دورة من دون تعب..، وكانوا أيضاً يجدون فيها (السيدة هداية) الضمير الشعبي البسيط غير المدعوم، الذي لا تحركه واسطة ولا رشوة.. روح الإنسان غير المتسلق ولا الانتهازي..، يرون فيها شخصية اجتماعية سترتدي ثوباً سياسياً، وهو أكثر نقاء بالنسبة إليهم من شخصية سياسية تريد التسلل إلى قناعاتهم بثوب اجتماعي.
هذه المدينة مثل طابع بريد قديم، تحتفظ به بحرص شديد، ولكن لا تستعمله..
حنون مثل أم تأبى إيقاظ أبنائها للذهاب إلى المدرسة..، هناك الكثير من الفرص التي تذهب للأغراب، بينما أهل المدينة آخر من يستفيد منها حتى في حقول النفط، فإن أكثر الذين أثروا هم المقاولون الذين جاؤوا من المدن الأخرى..
الضوء الشحيح في الشارع لم يكشف معنى تلك النظرة التي كانت تختلج في عيني السيدة هداية، وهي تلوح للجموع بإيماءات الثقة.
عينان داكنتان، وقلب يضخ دماء متعبة في الشرايين، وحلم أخير يمر في مخيلتها فتستوقفه..، ترجوه أن يمكث، تعلق على بوابة القلب قنديلاً جديداً فيه القليل من زيت التفاؤل، ترسم في الهواء عصافير من ورق ولكنها لا تتمكن من تلوينها..
إلى أين يفضي هذا الدرب؟.. سألت السيدة هداية نفسها وهي ترى الحشود تتناسل كخلية شرهة...
عيون تسري فيها الحياة بقلق جديد..، قلوب تنبض همساً بعبارات مبهمة.. الأقدام تأخذ الأجساد التي تحملها إلى صباح يوم آخر غير الذي اعتادته المدينة في انتخاباتها السابقة.
يوم حاسم ومفصلي في حياتها..، يوم أشبه بطريقين؛ أحدهما يؤدي إلى بوابة الشمس والآخر قد ينطفئ كشمعة في يد طفل شحيح البصر... السيدة هداية لا تعرف تحالفات اللحظات الأخيرة ولم يلقنها الوقت خداع السياسة.. لذلك بدت بريئة، ومحفوفة بالأذى، كالزهور التي تنمو فوق الصبار..
يمر الوقت على هون.. عقارب الدهر مربوطة بخيط رفيع إلى الأعصاب..، تحركات سريعة وغامضة بين المراكز الانتخابية، ورجال بنظارات سوداء، وآخرون يحملون حقائب جلدية منتفخة يخرجون منها رزما من النقود، وحافلات تقل القرويين من الأرياف..
مساء سوف تعلن النتائج...، مجرد أوراق في صندوق مرسوم عليها إشارة صح، بجانب اسمها، سوف تنتشلها من أحزانها وعزلتها كقشة تسحب فراشة من منتصف نهر غاضب.. إشارة بقلم أياً كان لونه، ستنهي هذه المعاناة.. ستفتح نوافذ زرقاء أمامها ويزرع رمال حياتها جنائن أمل جديد، وسوف تهبها الحياة دفاتر بصفحات بيضاء تكتب فوقها من جديد قصة أخرى لأيامها غير تلك التي مضت آخذة معها كل شيء، وتركت لها ابنتها ملكة وندوباً غائرة في الروح..
حين أعلنوا عن إغلاق مراكز الاقتراع، توهجت الدقائق في عيون الناس كجمرة غضى في كف شاعر أعيته ولادة القصيدة، كان الوجوم يتمدد على وجوه أهل الحي، الذين أحاطوا بالسيدة هداية منتظرين كساراً كي يأتي لهم بالنتيجة.
ثمة نجمات بدت على البعد كقطرات الماء المتساقط من شعر رولا حين يرشقها المطر.. نظرت السيدة هداية إلى أفق ناء.. بعيد.. مدت يدها كي تقطف نجمة.. أطل كسار على البعد.. لم تكن الإضاءة البخيلة في الشارع تتيح قراءة الكلمات التي ستقولها عيناه..، ولكنه حين دنا أكثر، تسمرت نبضات الوقت في ثوانيها..، أرجعت السيدة هداية كفها من دون أن تقطف نجمة، ثم غابت وراء الباب الحديدي الأسود..
من يومها لم يرها أحد، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي طرق فيه كسَّار الباب عليها، فأطلت ملكة بهدوء واضعة إصبعها على فمها بإشارة "اصمت":
- أرجوك لا تزعج ها إنها نائمة...، منذ أسبوع "...
*(عدنان فرزات: جمر النكايات - رواية، ط 1 - دار صائب للنشر والتوزيع، سورية 2010م)