مساحة أرضية من أعماق كرة بلورية.. تعاقب عليها ليل ونهار، وماجت في بحر متلاطم أمواجه عاتية. مساحة أرضية دواخلها عناصر متباينة.. وقوى متصارعة، مناخاتها استوائية.. وجغرافية أرضها التهبت بصراع التنوع والتعدد.. تربتها السمراء لوثتها أقدام الاستعمار الإنجليزي عندما حكمها عنوة عام 1898م.. أوراقها الفكرية.. ومعالمها التاريخية طمستها أصابع الغزو التركي التي امتدت إليها عام 1820م..
وعلى أرضها المكتوية بلظى حرارة شمس الكون ترعرعت حضارات قديمة تعود جذورها إلى مراحل مبكرة من العصر الحجري ولا زالت آثارها باقية شاهداً ودليلاً لبداية الحضارات البشرية.
مقدمة مختصرة قد تجعل القارئ يتساءل: أي مساحة هذه التي أتحدث عنها؟ وأي أرض هذه التي فتتتها صراعات القبائل ووصلت إليها جحافل الغزو التركي.. وطوقتها أذرعة الاستعمار الإنجليزي لسنين متعاقبة؟ إنها جمهورية السودان التي نالت استقلالها عام 1956م. السودان تلك المساحة المتربعة على جزءٍ من سطح الكرة الأرضية كغيرها من دول العالم لم يعد السودان الحقيقي الذي نعرفه في قاموس جغرافية الكتب والخرائط الدراسية والتي تجذرت في عقولنا منذ الصغر..! لذلك ستتغير كثير من الأوراق.. وسيكون هناك تعديل وعناوين جديدة لهذا الوطن.. فالعالم اليوم أصبح أمام دولتين ومساحتين تحتلان موقعاً متجاوراً في الخارطة العالمية أحدهما شمالياً والآخر جنوبياً.. سودان اليوم ليس هو سودان الأمس.. وما أشبه ماحدث في السودان بما حدث في يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي بالأمس.. تفتت دولة إلى دويلات. لقد كان يوم السبت 9-7-2011 يوماً فاصلاً في تاريخ السودان.. في هذا اليوم ولدت دولة من رحم أكبر دولة في قارة افريقيا هذا اليوم كان يوم انتهاء السودان الكبرى.. يوم التحولات العميقة للخارطة السكانية والمكانية لهذا الوطن.. مسار جديد.. وتغيير شامل لواقع سياسي واقتصادي واجتماعي سيفرض نفسه على دولة أصبحت دولتين متجاورتين.
لكن ثمة تساؤلات تدور في الأذهان.. ترى هل الانفصال خطوة نحو إستراتيجية تحقق مسافة الأمان..؟ وماهي ملامح الجمهورية الجديدة والمناهج السياسية والتشريعية التي ستحكمها..؟ وكيف سيتحقق الطموح من خلال الواقع في دولتين متجاورتين ولدت إحداهما من رحم الأخرى؟ وهل الانفصال سيكون مؤشراً حقيقياً لنهاية الصراعات القبلية والتعددات العرقية؟ أسئلة كثيرة.. وتحديات متعددة وشائكة ستواجه كلا البلدين ولربما تزيد الأمر تعقيداً وخطورةً.. فدولة جديدة أحدثت انقلاباً في جغرافية السياسة السودانية ،وقررت تاريخاً جديداً وستعيد تشكيل حقائق تاريخية ومعطيات اجتماعية كانت سائدة على هذه الأرض منذ تكوينها وربما ستكون هناك مواجهات سياسية واقتصادية داخل حلبة مفتوحة وبالتالي فإن الملفات العالقة بين البلدين قد تفرز خلافات شائكة فمن المعروف أن 70% من حقول النفط تقع في الجنوب وذلك وفقاً للحدود التي رُسمت عام 1956م بعد انجلاء الاستعمار البريطاني إلا أن غالبية منشآت ومرافق تصدير النفط تقع في الشمال لذلك فإن ظروفاً اقتصادية صعبة قد يعاني منها شمال السودان إن لم يسرع الخطا في المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية وبالتالي البحث عن إستراتيجية جديدة تعيد التوازن الاقتصادي له. إن الأحزاب السياسية التي تعاقبت على حكم السودان قبل الانفصال عجزت عن معالجة أوضاع البلاد فتطاول الزمن.. وتضخم الركام.. وضاعت فرصاً كثيرة للسلام فوجد الأعداء، وأصحاب المخططات الأجنبية فرصةً سانحة لتفكيك أوصال البلاد.
فبعد استقلال السودان لم تتمكن الحركات السياسية على مدى أكثر من ستة عقود أن تقتلع الجذور التي غرسها الاستعمار في جنوب السودان وشماله، ولم تستطع كسر الحاجز الذي وضعه المستعمر بين الشمال والجنوب.. هذا الحاجز الذي يشير إشارة واضحة إلى سياسة الأراضي المقفلة.. السياسة التي تقضي بالفصل التام بين سكان الشمال والجنوب، وإلى محاربة الثقافة العربية والإسلامية ،وإلى إظهار التباين وتأجيج الصراع.
صحيح أن الجنوب السوداني شهد نوعاً من السلم والاستقرار لسنوات معدودة وذلك بعد الاتفاق الذي تم في (أديس أبابا عام 1972م) بين الحكومة السودانية وحكومة تحرير جنوب السودان وقد نص هذا الاتفاق على منح الجنوب السوداني حكماً ذاتياً تحت ظل سودان موحد إلا أن هذا الاتفاق لم يدم سوى عشر سنوات لأن التجارب أثبتت أن الطبقة الشمالية الحاكمة لم تستبصر لما تحت الرماد من وميض نار فخرق الرئيس الأسبق (جعفر نميري) هذا الاتفاق بل ألغاه تماماً ونتيجة لذلك تفاقمت الأوضاع بين الشمال والجنوب مما أحدث فجوةً عميقة بين الرئيس الأسبق (نميري) وخيرة قادة الجنوب الذين ناصروه، واستمر صراع بين الشمال والجنوب، وأثيرت النعرات القبلية ودخلت السودان في حروب أهلية ظلت مشتعلة ومستمرة.. وظل الأعداء ينشطون، والطامعون يتحينون وأصبحت البلاد في حالة يرثى لها.. إلى أن جاء اليوم الذي ضُربت فيه الوحدة الوطنية لهذا الوطن.. فبعد غليان سياسي قل نظيره، وبتغلب لغة المزايدات والمناكفات على لغة التنمية والالتفات للإنسان، وبتسارع لم يحدث له مثيل كان هناك وفي لحظة واحدة تاريخ ميلاد.. وتاريخ موت!! هكذا بدا المشهد السوداني أمام كل من تابع مسرح الأحداث..!! السؤال المطروح.. ترى هل مايسمى حق تقرير المصير هو الطريق لتفتيت الوطن وضرب وحدته.. وتغيير هويته!!؟ وماذا يدور في الأروقة الدبلوماسية عن حقيقة التاريخ.. والواقع المعاصر؟