|
بعد أن تحدثنا في المرة الماضية عن إخافة الناس في قضية الاختلاط، نعرج على القضية الأخرى المتعلقة بالمرأة، وهي قضية الخلوة. ففيما يخص هذا الأمر الذي حرّمه الفقهاء، نجد في التراث روايات قطعية الثبوت والدلالة تكذب زعمهم ذاك؛ أشهرها قصة تخلف عائشة بنت أبي بكر عن معسكر المسلمين. وبعد أن بقيت بمفردها في ذلك المكان الذي رحلوا عنه، مرَّ بالمكان صفوان بن المعطل السلمي؛ وبعد أن رآها وعرفها (وهذا يؤكد تعود الناس آنذاك على الاختلاط وعدم حجب الوجه، كما يشيع متزمتو هذا العصر، ويطلقون على غطاء الوجه «الحجاب»)، أناخ لها بعيره، وأركبها عليه، وسار حتى لحقا بالركب بعد مسافة طويلة جداً - وهما منفردان - على راحلة واحدة. ومع ذلك فإن الشك لم يطلهما من المسلمين المخلصين؛ بل كان من نصيب من لاكها بلسانه في حادثة الإفك المشهورة. فالرجل كان مخلصاً لإنسانيته، وواثقاً من نفسه، فأنقذها، ولم يتركها بمفردها، لئلا يرتكب المحظور، إن كان ما فعله محظوراً.
أما إفضاء النص إلى السلطة، فهو ما جرى طيلة عصور تلت وجود النص، واقتنع أصحاب المصالح باستغلاله والاستفادة من قوته وتأثيره في الناس للحصول على سلطة لا تضاهيها سلطة. ولنكتشف هنا أبعاد توظيف النص في حيازة السلطة، والتمكن من رقاب الناس من خلال سطوة النص.
ففي هذا المجال تقوم النظريات الفلسفية وعقائد الأديان على فقه اللغة وفهم النصوص، وما يتبع ذلك من طرق في تفسيرها؛ ومن هذا المنحى تتكون السلسلة الرئيسة في نشأة الفلسفات والأديان. إذ تنشأ عن الكلمات بشكل لاحق الأفكار، وهذه تصنع المبادئ. وفي اللغة بشكل عام تتكاثر عوامل التلوث بسبب التأويل الرمزي في عناصرها، مما يجعل مفاتيح تلك الرموز متعددة المواضع، وتخضع لإرادات خارجة عن موضوعية اللغة ضمن منظومة التراث اللغوي وثقافة المجتمع. لكن الأمر يزداد سوءاً في النصوص الدينية، حيث تكتسب تلك المرجعيات لفك الرموز قوة لا تضاهى، وتصبح هي المتحكمة في التأويل.
ومن مصادر ذلك التلوث التي تتضح للمراقب الخارجي عمليات التوسع في مد دلالات الرموز، لتصبح غير محددة أو منسوبة إلى غير ما وضعت له الرموز أو عامة بشكل فضفاض يجعل خصوصية الدال غير مفيدة في توصيف المدلول. على أن قضايا النسبة تكون أكثر اتساعاً؛ حيث يربط بين دلالتي رمزين وفقاً لرغبات من ابتكر العبارة أو من استخدمها في ذلك السياق، ثم تصبح من المسلمات التي لا يناقش الناس مدى توافق دلالاتها مع مرجعيتها. ومن أمثلتها عبارات: «مصلحة المواطن» (أو: المصلحة الوطنية)، «الدين الصحيح»، «التفسير الحقيقي» وغير ذلك مما يتبنى من العبارات دون تمحيص، ولا تعاد جزئياته عند النظر فيه إلى أصولها. وأخيراً تؤدي عملية استخدام العموميات إلى تصلب المفاهيم التاريخية، مما يجعل التاريخ يتحول إلى أساطير، وهو ما يجعل التعليلات التاريخية للنصوص القائمة على هذه الطريقة تفترض معاني نصوصها في ضوء واقعها اللاحق، فلا تكون جهودها التفسيرية موضوعية، بل مرتبطة بمقاصد عقدية أو عملية معينة. بهذا المنهج تصبح التنمية الاقتصادية شبه الماركسية، على يدي جلال أمين، إسلامية، ويصبح الطب إسلامياً، والشورى بين كبار العشائر ديمقراطية إلى آخر هذه التلفيقات. وفي ظل هذا الوضع يصبح التاريخ المستنبط من نصوص اللغة مجرد مراحل إعادة دورية لأسطورة ثبتت في الأذهان.
فهل تحول النص إلى سلطة بيد من يبتز الناس بواسطته واقعة بدهية تقع في كل المجتمعات والعصور، أم هو نتيجة تواطؤ الضحايا غير الواعي مع من يقوم باستغلالهم؟