لفيف من الكتاب بدافع الحب المفرط أو الكره المفرط أو الجهل المفرط يتوسلون بالمبالغة والتهييج العاطفي فيما يثيرون من قضايا ذات أهمية ولقد يسعون ويحفرون ليكونوا حديث المجالس ومثار الانتباه ومجال المداخلات، ومتى طغى الحب أو الكره وتحكم الجهل طفحت الوسائل الإعلامية بالإثارات الفارغة.
ولكيلا تتضاءل صورة هذا الصنف من الكتاب المتشبعين بالجعجعة فإنهم لا يتورعون من تحويل الحبة إلى قبة وتصيد الوقوعات العارضة والإيجاف بالقلم واللسان لتتحول إلى ظواهر خطيرة تعم الوهاد والنجاد وتحتنك القيم الأخلاقية، والاقتراب من بعضهم لكبح الجماح وطمر المبالغات قد يدفع بهم إلى محاولة تصفية السمعة ومصادرة أبسط الحقوق والدخول في جدل عقيم تفوت معه الفرص.
وخروج هذا الصنف من الكتبة عن متْن القضايا إلى التشكيك بمشروعية المساءلة والتلويح بعدم أهلية المتَصدِّي لتلك الاحتدامات الهوجاء ينحِّي القضية عن مسارها السليم ويصرف الأنظار عن خطل التناول، إذ إن تناول القضايا مع المسائل مجردة من أطراف التنازع يكشف العوار ويعري الخطل.
ولو أن المتأذين من تلك الاهتياجات وجدوا من يأطر التناجي في محيط القضايا لما ترددوا في قمع الطيش وتعرية السوءات وإسقاط المتشنجين كورق الخريف، ولكن المهيجين للعواطف المسرفين في المبالغة والنفخ في البالونات الفارغة لا يتورعون من النيل الشخصي لخصومهم واجتراع الأوصاف المضحكة، وكم من متأذ فكَّر وقدَّر ووازن ثم غلَّب السلامة بالصمت المدان، وتلك أمنية هذا الصنف من الكتاب، فالجو حين يخلو لهم يكونون كـ(القبرة) التي عناها الشاعر بقوله:
يالك من قبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
والتصدي لخطل أولئك أو اعتزالهم خياران أحلاهما مر، فالكاتب الذي يحترم نفسه وقارئه ومجتمعه وسائر مؤسساته يسوؤه أن تكون الكلمة للمهتاجين العزل ثم لا تكون هناك كوابح تحد من شططهم وترد شاردهم إذ لا خير في جهل لا تكون له بوادر عقل تحمي صفو الحياة أن يكدرا.
ونحن إذ نتفق على أن الخطأ والتقصير والفساد وسوء الأخلاق موجودة وأن المجتمع بكل أطيافه واتجاهات أبنائه يتسع لكل الاحتمالات وأن واجب النخب أن يكونوا مرايا مسطحة ومحدبة ومقعرة يمر بها كل من ولي من أمر الأمة مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة، وأن الجميع يقعون تحت طائلة المساءلة والنقد وأن الخطأ والتقصير متوقعان من كل عامل وأن كل عاقل راع في موقعه وهو مسؤول عما استرعاه الله عليه، فإنه يجب أن نعلم بأن مصلحة البلاد والعباد رهينة التداول الإعلامي وصراع المصالح وأن المتربصين لا يتوانون في التقاط سقط الكتبة البراقشيين بوصفه وثائق إدانة وحفظ فيوض القول الذي لا يلقي له المتهيجون بالاً يتراكم ثم يتحول إلى عدو وحزن في ساعات العسرة، وفي ظل هذا التربص المريب لا يكون هناك حذر ولا سوء ظن، ومن ثم يكثر التهافت على الإثارات الفارغة ظناً منهم أن كلام الليل يمحوه النار، وما كان في حسبان أولئك أن الأعداء لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، حتى بيانات وزارة الداخلية في القصاص الشرعي تدخل البيانات الإحصائية وتزود بها منظمات حقوق الإنسان على الرغم من أن الوزارة تمارس حقها المشروع وتنفذ مقتضيات البيعة وتحكم شرع الله الذي هو دستور البلاد.
إن الدول المستبدة تكتب ما يقوله الصادق والكاذب والعقلاء والعاطفي والمجحف والمنصف وتستغله في الوقت المناسب.
والمتابع للصحافة وسائر وسائل الإعلام تسوؤه بعض الإثارات الفارغة والاتهامات المجحفة لبعض مؤسسات المجتمع المدني أو لفرد معين من المواطنين عالماً كان أو تربوياً أو لشريحة من شرائح المجتمع، ولسنا بحاجة إلى ضرب الأمثال، لقد حُوِّلت بعض الوقوعات الفردية إلى ظاهرة عامة تمس كل أفراد المؤسسة ومن ثم نِيل من تلك المؤسسة أو هذه الجمعية وأُمطرتا بوابل الانفعالات غير المرشَّدة، ولقد يخلط البعض بين النقد الموضوعي والمحاسبة المشروعة وبين كيل الاتهامات مجازفة وبدون تحديد، ولقد يخلط آخرون بين المبادئ والممارسات.
إن الصحافة عين الأمة ولسانها الناطق ولن تستقيم أمور الأمة حتى تملك الصحافة حريتها ويملك الكاتب حقه في أن يقول كلمته، ولكن كم هو الفرق بين حرية الصحافة وحق الكاتب وما نقرؤه ونشاهده أحياناً عبر وسائل الإعلام من تجريح واتهام ومصادرة لأبسط الحقوق، وما اضطرت الدولة إلى إصدار نظام المطبوعات وحقوق الملكية الفكرية وتشكيل مجالس تأديبية لمحاكمة أي متعد على سمعة المؤسسات أو المواطنين إلا بعد استفحال هذه الظاهرة التي نضيق ذرعاً بوجودها في ظل ثورة الإعلام والاتصالات وتدخّل المنظمات العالمية في أدق تفاصيل الحياة ظلماً وعدواناً. فكم من مجرم حرب زكِّي، وكم من مجاهد جُرِّم وطورد، وكم من مجرم باع كل شيء في سبيل النجاة ببدنه وكم وكم، ولما يزل الحبل على الجرار.
والمتابع الحذر يرى أن المشهد الإعلامي يتمخّض كل يوم عن مقال أو حملة إعلامية عفوية أو منظمة يتدافع في أتونها لفيف من الكتاب المتسرعين بالاتفاق أو بالتداعي، والمجتمعات المؤسسية لا تدع شيئاً يطير في الهواء، إنها تقيد شوارد الكلمات ليكون سلاحاً توهن به الخصوم، ومن المسيء تدافع بعض الكتبة والتقاطهم وقوعات عارضة صدرت من فرد ينتمي إلى مؤسسة تربوية أو دينية أو من مواطن لا يمثل بتصرفه أخلاقيات مجتمعه والنفخ فيها حتى تكون قضية كبرى لا يحسن السكوت عليها وحتى تصبح بقدرة قادر سمة من سمات هذه الأمة وهي منها براء براءة الذئب من دم يوسف. ولقد يبلغ الاهتياج العاطفي حد استعداء السلطة مع أن الواقعة خاصة وقد تكون عارضة، وبالإمكان حسمها بإجراءات روتينية تمارسها الإدارة المختصة بمجرد لفت النظر ثم لا يكون لها أي أثر على مجريات الأحداث العامة.
ولعلنا نذكر ما قيل من قبل عن المنهج الخفي وعن جمعيات تحفيظ القرآن وعن أفراد استزلهم الحماس الديني ثم استبانوا الرشد قبل فوات الأوان، ولما تزل آثار تلك الاهتياجات باقية، وهي إذ أصبحت خبراً بعد عين خلف من بعدها قضايا تكاد تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، وما نوده أن نتعظ بركام الأخطاء وغثاء التجاوزات، فالعاقل من وعظ بغيره، ودونه من وعظ بنفسه والخاسر من لم يوعظ بغيره ولا بنفسه.