استغرب الكثير من القراء دفاع الكاتب عن شركة ألبان كبرى رفعت سعر اللبن بريال، واتهمه البعض بمحاباة الشركة، أو حتى الارتباط المصلحي معها، والحقيقة أن الكاتب لا يشرب الحليب ولا يحب اللبن، ولا يعرف أين تقع الشركة أو من يديرها، ولا مصلحة له منها..
..غير أن قول الحقيقة، الدافع للدفاع، أهم من كل ذلك. والبعض قال إن الشركة تربح نصف مليار أو حتى مليار، واعتبروا زيادة الريال زيادة للطمع. والبعض الآخر تعود أن ينظر لكل زيادة في الأسعار على أنها تحايل وجشع من الشركات والتجار، أو أن هناك ربطاً بين هذه الزيادة بالارتفاع الموسمي للأسعار في رمضان.
ولا شك أن تحقيق شركة مهمة، مثل الشركة المعنية، لأرباح مجزية يعد أمراً جيداً ومرغوباً، ويدل على نجاح الشركة ويحسب لها لا عليها، لا سيما وهي شركة مساهمة وسباقة في طرح المنتجات الجديدة التي يحتاجها المجتمع السعودي، والقوة الشرائية في المجتمع السعودي تعد قوية نسبياً لمثل هذه المنتجات الحيوية. فأسعار اللبان موحدة تقريباً ورغم ذلك لا تحقق شركات منافسة الأرباح ذاتها. والشركات المساهمة مطالبة على الحفاظ على مستوى هامش الربح نفسه أو زيادته إذا كان ذلك ممكناً، حتى تستمر وتتطور، لا سيما وأن صناعة الإنتاج الغذائي صناعة عالية المخاطر. وزيادة التكاليف الإنتاجية تتطلب ارتفاعاً استباقياً موازياً في الأسعار للحفاظ على مستوى الربحية.
ولا بد من التذكير بأن رفع سعر منتجات استهلاكية يومية، مثل الألبان، أو الحليب، أو اللحم، أوالبيض، أو الخبز، أي تلك التي تعود المستهلك على سعرها يومياً يعد أصعب قرار تسويقي قد تتخذه إدارة شركة تعمل في هذا المجال، وهو بمثابة دعاية مضادة لها، وقد يكلفها جزء من حصتها السوقية، لا سيما إذا ما كان المستهلك قد تعود لفترة طويلة على مستوى سعري معين لها. لذلك لا يتخذ مثل هذا القرار إلا عند الضرورة القصوى، أو ظروف استثنائية. ولا داعي لتكرار قضية ارتفاع التضخم، وارتفاع أسعار مدخلات الصناعات.
وقد تكرر السؤال للكاتب عما يجب فعله في حالة مثل هذه الحالة التي قد تؤثر على بعض المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، والذين قد يحتاجون الحليب للأطفال والشيوخ. وكانت الإجابة أن مثل هذا الأمر قد تكرر في دول كثيرة سبقتنا في فقدان سيطرتها على دورات التضخم، وسبقتنا كل ذلك في اتخاذ الحلول المناسبة. وقد اقترحت أن تتحمل الدولة هذا الريال عن المواطن، وأن توفر الحليب المجاني كإعانة للأسر المحتاجة التي لديها أطفال. ففي بريطانيا، مثلاً، تدفع الحكومة معونة شهرية لحليب المواليد لكل من يتقدم لها من مواطنين أو مقيمين، وتكون بعض الأدوية، والأغذية، وأسعار المواصلات مخفضة للمسنين.
الذي حصل هو أن خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، أمر بتحمل 50% من قيمة الأعلاف لهذه المنتجات، فقد سبقنا جميعاً لتفهم هذه المشكلة. كما تم دعم الشعير وتوفير كميات كبيرة منه من الخارج لأهداف مشابهة. وقبله تم دعم استيراد الأرز، وغيره من بعض السلع الغذائية الأخرى، وتم رفع قرض البنك العقاري لأسباب ارتفاع مواد البناء. وبالمختصر المفيد، كل شيء ارتفع وما زال يرتفع والدولة تحاول معالجة ذلك بالدعوم الوقتية المختلفة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، والذي حاول كثير من الكتاب الحصول على جواب له، هو إلى متى نستمر في سياسة الإعانات المختلفة هنا وهناك، والتي تعد نوعا من الترقيع المستمر لمشكلة دائمة كلية. ولما لا تكون هناك جذرية لا تعالج الأعراض فحسب، ولكن تصل للعلة الحقيقية وتستأصلها. وإذا كانت بعض سياسات الترقيع هذه تعالج مشاكل الطبقة الأدنى دخلاً في المجتمع، فما هو مصير الطبقة المتوسطة التي بدأت تلحق بالطبقة المحتاجة للدعم نتيجة للارتفاع المستمر في الأسعار. فالفرد في الطبقة المتوسطة المتوسط الدخل يستهلك المنتجات ذاتها التي ارتفعت بما يقارب 300% لمعظم السلع الاستهلاكية، وكانت توصيات وزارة المالية حيال ذلك هي، من جانب، زيادة 15% كبدل غلاء للمواطن، ضُم بعد ذلك للراتب، والاستمرار في دعم التجار، والمقاولين، والمصنعين بهدف الحد من الارتفاع الجنوني للأسعار، من جانب آخر.
لكن الوزارة، ومؤسسة النقد لم تكلفا نفسيهما تفسير السبب الحقيقي للارتفاع الجنوني للأسعار، ولم تريا توضيح ذلك كجزء مهم من مسئوليتهما تجاه المواطن لا الدولة فقط، كما يفعل وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في الدول الأخرى الذين يوضحون جميع مجريات سياساتهم للمواطنين بشكل مستمر، لا سيما في الظروف المتغيرة المتسارعة. وربما يكون مرد ذلك أن الوزارة، ومؤسسة النقد تنظران للمواطن على أنه الحلقة الأقل تأثيراً عليهما، ولذلك فلا لزوم لتنويره بما يجري، فتركا المواطنين والتجار يتبادلون الاتهامات حول أمور قد تقع المسئولية النهائية في المقام الأول على سياساتهما.
فسعر صرف الريال المرتبط بالدولار هو العامل الأول في سبب التضخم، والعقار المسئول الثاني، وما زال سعر صرف الريال مقابل الدولار كما هو منذ أكثر من 35 عاماً وكأنما العالم لم يتغير من ذلك الوقت، وقيمة الدولار هي هي. وعندما ربط الريال بالدولار كان سعر برميل النفط أقل من عشرين دولارا. والنفط يباع اليوم، بسبب انخفاض الدولار، وعوامل أخرى بمعدل 90 دولارا. أي أنه من المفترض أن ترفع الوزارة توصيات برفع الرواتب بنسبة وتناسب مع هذا التغير، لا أن توصي برفعها 15% فقط، وتترك بعد ذلك أمر التعامل مع التضخم للمواطن وحده.
كما أن مؤسسة النقد مطالبة بالتوضيح بشكل دوري حول مدى تأثر الاقتصاد بالسياسات التي المالية والنقدية التي تنتهجها الوزارة لا سيما تلك التي تكلف المواطن، ولا يستفيد منها مثل المشاريع الفلكية التي تطرح دفعة واحدة بحيث لا يمكن توفير متعهدين لتنفيذها وتكون وقوداً إضافياً للتضخم المستعر أصلاً. ويريد المواطن كذلك أن يعرف مدى الاستمرار في سياسات الترقيع الجزئية لارتفاع الأسعار. فالدولار مستمر في السقوط، والأسعار عندما ترتفع لا تنخفض بعد ذلك إلا في حالة مرور الاقتصاد بأزمات، والحكومة الأمريكية لديها سياسة متعمدة معلنة بالاستمرار في خفض سعر الدولار، فهل لنا كمواطنين أن نعرف ما هو حد سعر الصرف الذي يتطلب وصول الدولار له أمام العملات الأخرى حتى يتم التدخل بتعديل سعر صرف الريال أمامه؟ وما الأسباب الجوهرية في السماح بتدني سعر صرف الريال لهذا المستوى أمام العملات الأخرى؟ فتقديم تقرير سنوي ملمع في نهاية العام للجهات العليا لا يعفيهما من مسئوليتهما أمام المواطن، فالمواطن بحاجة للاطلاع الكافي على مبررات مثل هذه السياسات، ومناقشتها بشكل موضوعي، فهي أمور حيوية في مرحلة تتطلب الشفافية.
latifmohammed@hotmail.com