اختياررجال الدولة من أهم وأدق الموضوعات باعتبارهم رواد النهضة الذين يحملون مسئوليتها على أكتافهم، لذا فإن المحرك الحقيقي هو الفكر والعقل القيادي، وهو فن وريادة لا يتحقق بالمال وحده، وإنما يتحقق بالالتزام بالمسئولية الوطنية من أجل تحقيق أهداف تترجم معاني الوفاء والإخلاص والتضحية في سبيل الواجب وتأصيل أخلاقيات العمل الوطني المتمثل في تحقيق أهداف الدول بخطى ثابتة ومدركة لمعاني المسئولية باتجاه تحقيق المكاسب الحضارية.
وإذا كانت الأمم المتحضرة اتخذت أساليب متعددة وقواعد مختلفة في اختيار قياداتها الإدارية والمالية والتنموية والاقتصادية وموظفيها فإن النظام الإداري في الاسلام كان له فضل السبق في حسن اختيار القيادات التي تتولى المناصب القيادية التي تستطيع أن تنهض بمسئولياتها الدينية والأدبية تجاه الدول والمجتمعات.
إن حصاد التجارب على مدى العقود الستة الماضية في عالمنا العربي لم يكن على قدر طموحات وأحلام الشعوب وعلى قدر الإشراقات المضيئة للنظام الإداري والمالي والاقتصادي الإسلامي الذي سبق القوانين والأنظمة الحديثة في ما يتعلق بالشروط الواجبة لتقلد الوظائف العامة في الدول وفي مقدمتهم الوزراء والمستشارون وموظفو الصف الثاني، رغم ان دولنا العربية والاسلامية هي الأولى في تطبيق مفهوم الادارة الاسلامية التي قررت أهمية اختيار الوزراء وغيرهم من القيادات الادارية والمالية في الدولة، فالوزير مثلا هو قائد اداري ومن بطانة أولي الأمر ورد ذكره في القرآن الكريم مرتين على لسان موسى إذ يقول: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)، سورة طه الآيات 29، 30، 31، 32، وقال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)، الفرقان الآية35.
وأول قاعدة أساسية قننها الإسلام في اختيار موظفي الدولة على اختلاف درجاتهم الوظيفية جاءت في قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)، القصص الآية 26، والمراد بالقوة هنا الصحة النفسية والجسدية، أي المرء الذي يستطيع أن يحزم أمره ويضطلع بأعباء الوظيفة العامة بالشروط والقواعد التي تقررها قوانين الدول.
وإذا كان النص القرآني قد أكد على اختيار القوي الأمين استحساناً، فإن اختيار الأكفاء قد جاء وجوباً وأمراً في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، النساء الآية 58، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «السياسة الشرعية» يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»، رواه الحاكم في صحيحه.
ونظراً لأن منصب الوزيرله خطورته، فقد اهتم فقهاء المسلمين بوضع الشروط والضوابط التي يقوم عليها الاختيار لهذا المنصب الرفيع، ففي كتاب الأحكام السلطانية للماوردي (364 - 450 هـ)، نجد أنه يشترط في الوزير عدة شروط، تتمحوركلها حول الصدق والأمانة والكفاءة والولاء، وتؤكد على تأصيل نظام الحكم والإدارة الإسلامي على أساس الصلاحية والكفاية التي تعتمد على الصدق والأمانة والكفاءة. ولا بد ان يثور السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، وهو كيف يمكن الحصول أو العثور على مثل هذه القيادات؟ إن الدول الرأسمالية في العصر الحديث حددت الأسلوب المنهجي في اختيار قياداتها الإدارية في إطار نظامها السياسي والإداري، وفي ظل الرقابة المالية والإدارية المطبقة في الدول الصناعية، وهو أسلوب علمي يقوم على درجة عالية من التطور الإداري والمالي والاقتصادي، وعلى أسس موضوعية تنأى عن الاعتبارات الشخصية.
وبقدر حصافة الوزير ومهارته وكفاءته وخبرته وحسن قيادته الإدارية والمالية وأمانته وصدق توجهه، تتحدد نجاحات وزارته في ميدان الإنتاجية والتطوير والتحديث الإداري، وفي العالم العربي فإن اختيار الوزيركثيراً ما يخضع لملابسات حزبية أو فئوية أو جهوية..الخ، وقد تكون كل مؤهلات الوزير مجرد لسان معسول وصوت جهوري لا شك في أن عدم التوفيق أو الخطأ في اختيار القائد الإداري يعد أمراً فادحاً، إذ إن ذلك يترك أثره السيئ على الجهاز الإداري برمته، ولذلك فإن نجاح الجهاز الإداري في تحقيق أهدافه التي أنشئ من أجلها يبدأ من نقطة الاختيار السليم لمن يتقلدون المناصب القيادية، فهذا هو أهم المفاتيح لنجاح الجهاز إذا حددت أهدافه واستراتيجيته بدقة ووضوح وطبق مبدأ الرقابة الإدارية والمالية وركز على مبدأ الإدارة بالأهداف والنتائج. ولا يساورني شك في أن التطورات الاقتصادية في ظل نظام العولمة الجديد تتطلب قيادات إدارية تتسلح بالكفاءة المرجوة وتكون مؤهلة تأهيلاً عالياً للنهوض بمسؤوليتها لبلوغ التنمية الشاملة مع مراعاة الجانب الأخلاقي، فالمزالق والإغراءات في هذا الزمن أصبحت كبيرة وخطيرة، ولا يستطيع مقاومتها إلا ذو دين متسلح بالأمانة والصدق والخلق، وقد كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة التي هبت رياحها عاتية في عام 2008 لتشمل العالم أجمع الدرك الذي انحدر إليه العديد من المسئولين في الدول الغربية والعربية والاسلامية أمام تلك الإغراءات.
كما لا يساورني أدنى شك في أن أعقد مشكلة واجهت وتواجه دول العالم النامي - والدول العربية منها - أن نصيب كثير ممن دفعت بهم الظروف لتولي مناصب قيادية من المؤهلات والخبرة والمهارة والمعرفة متواضع على نحو يدعو للأسف، بل ثمة معايير أخرى شخصية هي التي أوصلتهم إلى تلك المناصب، ومن هنا فإنه لا يتوقع من مثل هؤلاء تحقيق الأهداف المرجوة بل العكس صحيح، ذلك أنهم يصبحون عبئاً على الجهاز الحكومي ويعملون على إضعافه، وهكذا فإن أغلب أسباب القصور في الأداء من بعض الأجهزة يتركزفي عدم التوفيق في اختيار قيادات ذلك الجهاز.
وإذا افترضنا أن بعض الوزراء والقيادات الادارية يتم اختيارهم بتجرد وعلى أساس علمي، اعتماداً على قدراتهم ومؤهلاتهم وتخصصاتهم، فإنه بمجرد اختياره للوزارة وما أن يشغل كرسيه ويبدأ بإدارة شؤونها، ونفسه مليئة بالآمال وجعبته مليئة بالخطط - اذا كانت لديه خطط - حتى يفاجأ بالحقيقة المرة المتمثلة في هيكل الوزارة المتداعي الضعيف، الذي تسوده الفوضى والترهل، فيدرك ان اختياره وزيرا لا يمثل سوى نصف المعادلة وان النصف الآخر يكمن في أن معظم معاونيه تنقصهم الكفاءة والقدرة، فيشعر الوزير بالإحباط، ناهيك عندما يكتشف أن إصلاح ذلك الجهاز يحتاج الى ان يتفرغ له لسنوات، وخلالها ستقوم عليه الدنيا ولا تقعد إذا حاول التبديل أو التغيير ومواجهة المشاكل والتحديات.
وقد تعجل محاولة الإصلاح هذه بفقد الوزير منصبه قبل أن يهنأ به، كما ان الوزير سيواجه في محاولة الإصلاح، إن المعلومات الجوهرية اللازمة للتعامل مع الجهة التي يتولى مسؤوليتها غير متوافرة، وقد يكون ذلك متعمداً في بعض الأحيان لأسباب تمليها مصالح ذاتية ومنافع شخصية، تسعى لإبعاد الأكفاء وأصحاب المواهب، وقطع الطريق على القادرين والعنصر البشري المتميز، ويبقى العاطلون عن الموهبة والقدرة، لأنهم مسنودون أو لأنهم حلقات في سلسلة المنافع المتبادلة، وتوصد الأبواب في وجه القادرين على العطاء وتزرع الأشواك في طريق مسيرتهم!
إن اعتقاد الكثيرين في الوطن العربي أن التعديل الوزاري واستبدال وزير او مستشار أو قائد إداري بآخر هو الحل السريع للمشاكل التي تواجه تلك الوزارة أو الهيئة أو المصلحة، هو اعتقاد خاطئ، لأن استبدال وزير بآخر مثلا لا يقدم حلاً سحرياً لمشاكل الجهاز الإداري في الدول العربية، ولا يؤدي الى تحقيق الغرض المنشود في معظم الأحوال، طالما أن الوزير الجديد لا تتوافر فيه شروط الصلاحية والكفاية لإدارة ذلك الجهاز الإداري- وهذا للأسف هو السائد في عالمنا العربي - الافتقار إلى قوة البناء والتنظيم الإداري والمالي المنضبط من قاعدة الهرم الإداري إلى قمته في معظم جهات الإدارة في القطاع العام، وضمان تطبيق النظامين الإداري والمالي السليمين حتى لا تتناقض المصالح وتتضارب وتختفي الرقابات المالية والإدارية ويصعب بل يستحيل تحديد مصدر الفشل، وتصعب المحاسبة والإمساك بالخيوط التي تؤدي إلى تحقيق النجاح، ومن ثم يظل الحال كما هو بلا إصلاح أو إنجاز أو محاسبة.
وهكذا يتضح أن معظم الوزارات في الوطن العربي عاجزة عن مواكبة التغيرات المتسارعة في هذا العصر بهذه المعوقات التي تثقل كاهلها، وأن أي مؤسسة في هذا الزمن تتأخر عن مواكبة التطور العلمي لن تنجح في تحقيق أهدافها، إذ إن الإدارة عملية مستمرة متواصلة وتعمل على تجديد خلاياها حتى تتوافر لها شروط اللياقة الصحيحة والكفاءة الإدارية، وضمان التجديد المستمر في جميع الأجهزة والقطاعات ما يحقق الخطط والأهداف بكفاءة وفاعلية، وكذلك بإتاحة الفرص أمام الأجيال الجديدة للمساهمة في التطوير وتحقيق غايات المجتمع وأهدافها، فإن دفع دماء جديدة في عروق الجهاز الحكومي له أهميته البالغة حتى لا يركن لما تم من إنجاز ولا يكتفي بما تحقق، فإن التجربة بلا طموح وبلا دماء جديدة تعرض التجربة برمتها للجمود والخطر.
ولعل وضع استراتيجية مدروسة ترتكز على أسس واقعية موضوعية لمسح وتقصّ شامل دقيق لمن يتمتعون بالكفاءة والخبرة والقدرة والمعرفة والأمانة والإخلاص والسمعة الطيبة والوازع الوطني وغيرها من الصفات والشروط المطلوبة يمثل المعايير الأساسية التي يحتكم إليها عند الاختيار، وهو أمر أصبح ضرورة لا مفر منها وليس ترفاً.
ومن خلال تلك المعايير يمكن أن تبرز أسماء المرشحين لتبوؤ المناصب القيادية، ليصبحوا أهلاً لحمل الأمانة وتحقيق أهداف الجهاز الإداري على المدى القريب والبعيد، والعبرة دائماً بالنتائج كما يقولون وليس بالأقوال والتصريحات.
وإذا كان الكيان الإداري ضعيفاً أو فاشلاً في أدائه مما ينعكس على ضعف الخدمات التي يقدمها للمواطنين أو تدنيها فالعيب ليس في الجهاز نفسه الذي أنشئ لأهداف محددة، إنما تكمن المشكلة في من تقلدوا المناصب الإدارية وهم غير مؤهلين للمنصب ولا يتمتعون بالحد الأدنى المقبول من الكفاءة والخبرة، وهذه الظاهرة تكاد تكون موجودة في العديد من الوزارات والهيئات والمؤسسات في الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، بل إن وضوحها أصبح يتزايد اليوم أكثر من أي وقت مضى!
ويزيد الطين بلة والمصيبة مصيبة أن اختيار بعض الوزراء والقادة الإداريين في كثير من الدول العربية يتم لترضيات فئوية أو جهوية أو مساومات حزبية، بينما لا يملك هذا المسئول مؤهلات للمنصب، فيعجز عن مواكبة التطور العلمي في إدارة وزارته، بل يديرها بطريقة العُمد في بعض الدول العربية، بعيداً عن مبدأ الإدارة بالأهداف والنتائج الذي يعد منهجاً منطقياً واضحاً للإدارة الحديثة، لكنه في معظم الأحوال غير مطبق ولا يحاسب عليه من يتقلدون مناصب قيادية في دولنا العربية، ولدينا مثلا حيا في ما حدث في مصر مؤخرا فعند إحالة بعض الوزراء إلى تحقيقات ومحاكمات عن فساد ارتكبوه اتضح ان وزيرا كان لقبه العلمي مهندسا اتضح فيما بعد أن المؤهل منه براء، وآخر اتضح أن مؤهله لا يتجاوز دبلوما!! وهذا هو نتاج الاختيار العشوائي أو المبني على غوائية المحسوبية والحزبية أو الجهوية لتغليب مصالح أشخاص على مصالح أمة!!
ولذا وجدنا رئيس وزراء مصر د . عصام شرف في وزارة تسييرالأعمال أجرى تعديلات متعددة على وزراته بحثا عن الخبرات والمؤهلات المطلوبة لتقلد المناصب آخرها اختياره نائبين له أحدهما للشئون الاقتصادية ووزيرا للمالية هو د . حازم الببلاوي وهو خبير اقتصادي معروف أتذكر اشتراكنا سويا في ندوة في مركز الجزيرة بثتها الجزيرة مباشر حول الابعاد السياسية والاستراتيجية للازمة المالية العالمية وهي في أوج زلزالها بتاريخ 29 اكتوبر 2008 والنائب الثاني للشئون السياسية والديمقراطية هو الدكتور علي السلمي وهو خبير معروف في السياسة والادارة وقد انضم إلى هؤلاء الخبراء وزراء عدة من التكنوقراط لقيادة سفينة التطوير والبناء في ديار أم الدنيا، ولا شك ان نجاح الوزارة او الوزير يكمن في وضع الخطط والأهداف والاستراتيجيات وجداول زمنية لتنفيذها في الواقع المعاش .. وإلا ستبقى كل الأمور والأهداف والنتائج المرجوة حبرا على ورق.
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com