انطلقت المركبة الفضائية باتجاه كوكب الأحلام، وكان كافة المسافرين يهدفون إلى التخلص من عواصف الحياة التي بات من الصعب التعامل معها.
بدت لنا الأرض بكل ما فيها ككرة صغيرة معلقة في الجو.. تلك الأرض التي كنا قبل سويعات قليلة نسعى فوقها مع ملايين البشر.. هاهم أولئك البشر الذين يملؤون رحابها مرحاً وضجةً وآمالاً وألماً.. يبدون ضئيلين، ويزداد تضاؤلهم شيئاً فشيئاً...وهاهم الطيور، الحيوانات، الأسماك، الزواحف، الأشجار.. وكل الكائنات يختفون.. ها هي الدور والقبور، الأراضي والبحور، بل وحتى ناطحات السحاب... تصغر حجماً.. تتقزم... وها هي السماء الفسيحة تتلألأ فيها ملايين النجوم والكواكب، ومنها كوكبنا السابق المسمى بالأرض، فليس ذاك الكوكب المزعوم بمفارقاته المهولة وحده في هذا الكون، فهو جزءٌ ضئيل جداً في رحاب الفضاء...
ها هو كوكبنا الذي كنا نعيش فيه يلفه السواد، ويختفي نهائياً، وتزول عنه كل معالم حياتنا السابقة... وبعد ساعات ستبدأ حياتنا الجديدة على كوكب جديد.
حانت مني التفاتة إلى ركاب المركبة، فرأيت علامات الرضا على محياهم، وكأنهم ينفضون عنهم غبار حياتهم الماضية لينطلقوا من جديد، ويبدؤوا بدايات جديدة، يحققوا من خلالها أحلامهم، ويقضوا على احباطاتهم وتوتراتهم.... وأنا كذلك كان علي أن أرحل عن ذاك الكوكب بعد أن تعقدت أمامي المشاكل وتعثرت الحياة، فلم يعد هناك ما يُغري للبقاء على ظهره، وأصبح لزاماً عليّ البحث عن كوكب آخر..لكم تعبت، تعبت من الصخب والعنف والضجة.
تعبت من السرعة في كل شيء، في الأكل والكلام والحركة..
تعبت من التقاليع التي تظهر كل يوم وتغزو كل أصيل وتحتل مكانه باسم الشعارات العصرية المتحضرة..
فقدت الهدوء والقدرة على التركيز..
تعبت من الأضواء التي تُلغي الفرق بين الليل والنهار..
تعبت من الإعلانات، تباً لتلك الإعلانات، فكل شيء لا بد أن يخضع للإعلان، وإلا كُتب له الفشل الذريع..
تعبت من الآلة التي تسيطر على البشر، ولا تعطيهم فرصة للاستمتاع بصداقة صادقة، أو حب رقيق، أو فن راق، أو أي معنى إنساني جميل...
تعبت من هذا العالم شديد القسوة، الذي لا يوجد فيه من يهتم بالآخرين.. بل ولا يحس بهم..فكل إنسان يهتم بنفسه باسم الحرية والمصلحة الشخصية ولا يفكر بالغير.
تعبت من هذا النمط السريع اللا مبالي في الحياة.. وفقدت القدرة على التحمل..أصبحت أشعر بالضياع وسط الزحام والأضواء.. أصبحت أشعر بالتقزم أمام ناطحات السحاب.. فأين هي البساطة، والحياة الخالية من التعقيد؟... أين هو الدفء الأسري.. أين السكينة والهدوء.. أين هو الحب الصادق الصافي الوديع الخالي من المصالح والمجاملات؟.
نعم، أنا تعبت، وصار رحيلي أمراً محتماً، فقد صارعت وبكل قواي لتتوازن حياتي في دنيا الغاب تلك التي على كوكب الأرض، وفشلت... فتنحيت جانباً، وأخذت انطوي، أؤدي ما علي خلال نهاري بهدوء تام وصمت لتأمين معيشتي ليس إلا، لأعود مسرعة وأتحصن بوحدتي وانعزالي... فأحزاني كبيرة، وكلما ازددتُ عمقاً، ازددتُ ألماً.. وأخيراً أعلنت انتكاستي أمام تفاهات الحياة القاسية.. وقررت الرحيل...
كانت رحلتي تمضي بهدوء، ومع مرور الوقت بدأت أفقد توازني كما جميع الركاب، فقد دخلت المركبة في منطقة اللا جاذبية، وهذا هو الفرق بين الأرض والفضاء، ففي الأرض كنت أمشي عليها، أما في الفضاء فأنا أعوم في الهواء، تاركة نفسي تنساب فيه، أشعر بخفة وكأنني أطير في أحلامي وآمالي المفقودة، أتشقلب ولا أعرف أين السقف وأين الأرض، ما أروع هذه الخفة... وما أروع الحركة بحرية.... لكن الشقلبة وفقدان الوزن بدأ في التزايد، ووصل الأمر حدته عندما أُعلن عن وصولنا إلى كوكب الأحلام، فما إن فتحت الأبواب حتى وجدت نفسي أدخل في زوبعة دائرية شديدة العصف، دوامة متتالية الدوائر ومتداخلة، تقلبني... تدفعني دون إرادة مني.... بدأت أصرخ وأصرخ... وأيقنت بالهلاك... فهو آت.. آت لا محالة....ثم ما عدت أشعر بشيء...ولا عدت أعلم أين أنا.... وكأنني دخلت في مرحلة اللاوعي... وفجأة سمعت صوتاً رناناً آتياً من بعيد...حاولت فتح عيني المتثاقلتين، فأدركت أنه صوت المنبه معلناً الساعة السادسة صباحاً، وعليّ الاستيقاظ للحاق بحافلة الساعة السادسة والنصف التي تسير على الأرض ولا تعوم في الهواء، والمتجهة إلى مقر عملي في المجلة... فعلي اللحاق بركب الحياة ومجاراتها..عليّ ارتداء أقنعتي لأواجه بها تلك الحياة !!
الخاتمة:
سكينة.. اطمئنان... قوة... وعلى الوجه قناعٌ مبتسم.. أما ما يجري خلف القناع فهذا من شأني أنا !!
- الرياض