وهب بن منبّه الصّنعاني الذماري، من أهل اليمن وأهله من الفرس، وفي أصل نسبه يقول ابن خلكان: كان من الأبناء ومعنى قولهم: فلان من الأبناء، أنّ أبا مرّة سيف بن ذي يزن، الحميري صاحب اليمن في الجاهلية، لما استولت الحبشة على اليمن، توجّه إلى كسرى أنو شروان ملك الفرس يستنجده عليهم وقصّته في ذلك مشهورة، وخبره طويل،
وخلاصته: أنْ سيّر معه سبعة آلاف وخمسمائة فارس، من الفرس جعل مقدّمتهم وهّرَزْ. وهكذا قال ابن قتيبة، وقال غيره «ابرويز». وقال محمد بن إسحاق، لم يسيّر معه إلا 800 فارس، فغرق منهم في البحر 200 وسلم 600 فارس، قال أبو القاسم السُّهيلي: والقول الأول أشبه بالصّواب، إذْ يبعد مقاومة الحبشة بـ600 فارس، فلما وصل الجيش إلى اليمن، جَرَت الوقعة، بينهم وبين الحبشة، فاستظهرت الفرس عليهم، وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن، وقد اتخذ من أولئك الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً، وهو في متصيّد له، فزرقوه برماحهم -حرابهم- فقتلوه، وهربوا إلى رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً، وانتشر الأمر في اليمن، ولم يملّكوا عليهم أحداً، غير أن أهل ذي ناحية ملّكوا عليهم رجلاً من حمير، فكانوا كملوك الطّوائف حتى أتى الله بالإسلام. ويقال: إنّها بقيت في أيدي الفرس، ونواب كسرى فيها، وبُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباليمن من قواد «أبرويز» عاملان، أحدهما فيروز الدّيلمي، والآخر: أذَوَيْهْ، وأسلما وهما اللّذان دخلا على الأسود العنسيّ، مع قيس بن المكشوح لمّا ادعى الأسود النبوة فقتلوه. والمقصود من ذلك كلّه: أنّ جيش الفرس لما استوطن اليمن تأهّلوا، ورزقوا الأولاد، فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء، لأنّهم من أبناء أولئك الفرس، وكان طاؤوس العالم منهم. يقول الزّركلي: وأمّه من حمير، ولد ومات بصنعاء، وقد ولاّه عمر بن عبدالعزيز قضاءها، وكان يقول: سمعت 92 كتاباً كلّها أُنزِلَتْ من السماء، 72 منهن في الكنائس، وعشرون في أيدي النّاس، لا يعلمها إلاّ القليل، ووجدت فيها كلها: أنّ من أضاف إلى شيء من المشيئة فقد كفر، ومن كلامه: إذا دخلت الهدية من الباب، خرج الحقّ من الكوّة. وصحب ابن عباس ولازمه ثلاث عشرة سنة، ونُسِبَ له أنّه ألّف كتاباً في ذكر الملوك المتوّجة، من حمير، وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، رآه ابن خلكان، في مجلد واحد، وقال: هو من الكتب المفيدة وله: قصص الأنبياء مخطوط، وذكر صاحب كشف الظّنون، بأنّ له كتاباً باسم قصص الأخيار.
ولد وهب باليمن، سنة 34هـ، وتوفي عام 114هـ بصنعاء، وكان عالماً مؤرخاً كثير الأخبار، عن الكتب القديمة، عالماً بأساطير الأولين، ولاسيما الإسرائيليات، ويعدّ من التّابعين، وقد ولاه عمر بن عبدالعزيز قضاء صنعاء، وكان مشهوراً بالوعظ، وحكايات الأمم الماضية، فقد دخل سليمان بن عبدالملك الخليفة الأمويّ مسجد دمشق، فإذا نقش في الحجر، فقال لمن معه: ما هذا النّقش؟ قالوا: ما ندري؟ قال: ابعثوا إلى أناس من النّصارى واليهود، فجاؤا بهم أو بأناس من علمائهم، فقال: ما هذا النقش؟ قالوا: ما نعرف؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، أبعث إلى وهب بن منبّه، فإنّه يقرأ الكتب. فبعث إليه فعرفه، فإذا فيه: يا ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي، من أجلك، لزهدت في طويل ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك لو قدر زلّت بك قدمك، فأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عملك زائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة، وقصّرت من حِرْصك وحيلك، واْبَتَغْيتَ الزّيادة في عملك. قال الكاتبون عنه: إنه كثير العبادة، زاهداً تابعيّاً ثقة، فقد رَوى عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيكون في أمتي رجلان: أحدهما يقال له وهب، يهب الله الحكم له والأخبار، وآخر يقال له غيلان، هو أشرّ على أمتي من إبليس. وقد استشهدوا بهذا الحديث، على مقتل وهب بن منبّه، وقد تحدّث كثير بن عُبَيْد: أنّه سار مع وهب حتى أتوا داراً بصعدة، عند رجل من أهلها، فأنزلا مصابيحهم، وخرجت ابنة الرجل فرأت عنده مصباحاً، فاطّلع إليه صاحب المنزل، فرآه صافاً قدميه، في ضياء كأنّه بياض الشّمس، فقال الرّجل: رأيتك اللّيلة في هيئة ما رأيت فيها أحد، قال: وما الذي رأيت؟ قال: رأيتك في ضياء أشد من الشمس، قال: اكتم ما رأيت. ولكثرة عبادته وتهجّده، فقد لبث أربعين عاماً، لا يرقد على فراش، وقال المُسَنّة بن الصبّاح: رأيت وهب بن منبّه أربعين سنة لم يسب شيئاً فيه روح، ولبث 20 سنة لم يجعل بين العشاء والصباح وضوءاً. وكان وهب إذا قام إلى الوتْر يدعو يقول: اللهم لك الحمد، الحمد لله السرمد، حمداً لا يحصيه أحد ولا عدد، ولا يقطعه البدّ، كما ينبغي لك أن تُحْمد، وكما أنت له أهل، وكما هو لك علينا حقّ. ولفضله ومكانته يقول الجعد بن درهم؛ ما كلّمت عالماً قط إلا غضب، رَحْلُ صبوته غير وهب بن منبّه. جاء رجل إلى وهب، فقال: إنّ الناس قد وقعوا فيما وقعوايه، فقد حدّثت نفسي ألا أخالطهم، فقال له وهب: لا تفعل وعنّفه لا بدّ للناس منك، ولا بدّ لك منهم، ولهم إليك حوائج، ولك إليهم حوائج، ولكن كُنْ فيهم أصم سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً ناطقاً.
وكان وهب يقول: لا يكون الرّجل فقيهاً كامل الفقه، حتى يعد البلاء نعمة، ويعدّ الرّخاء مصيبة، وذلك أنّ صاحب البلاء ينتظر الرّخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء. ولوهب كلمات في الحكم والوعظ، جيّدة في ذلك قوله من يّرْحم يُرْحم، ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطئ، ومن يحرص على الشرّ لا يسلم، ومن لا يدعم المراء يُشتم، ومن لا يكره الشّتم يأثم، ومن يكره الشّر يُعْصم، ومن يتبع وصية الله يُحْفَظْ، ومن يحذر الله يأمَنْ، ومن يقول الله يصنع، ومن لا يسأل يفتقر، ومن لا يكن مع الله يخذل، ومن لا يستعين بالله يخسر، ومن يستعين به يَظْفَر، وما عند الله شيء أفضل من العقل.
وكان يقول: إن من أهون الأخلاق على الدين، الزّهادة في الدنيا، ومن الرّغبة في الدنيا حب المال والشّرف، ومن حبّ المال والشّرف، استحلال الحرام، ومن استحلال الحرام، يغضب الله، وغضب الله الداء الذي ليس له إلا رضوان الله، ورضوان الله الدواء الذي لا يضّر معه داء، فمن يرد أن يرضي الله يسخط نفسه، ومن لم يُسْخِطْ نفسه لا يرضي ربّه، إن كان كلّما ثقل على الإنسان، شيء من أمر دينه تركه، أو شكّ الاّ يبقى معه شيء، ولكلّ شيء طرفان. ووسط فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، وإذا أمسكْتَ بالوسط، اعتدل الطرفان، فعليك بالأوسط من الأشياء. وجاء عند أبي نعيم في حِلْيَةِ الأولياء، قول وهب: لا يشكيّن ابن آدم شيئاً من رزقه، فليزده رغبة إلى الله أَوَلاَ يعتبر ابن آدم، في غير ذلك، ممّا يتفاضل فيه النّاس، فإنّ الله فضّل بينهم في الأجسام، والألوان والعقول، والأحلام فلا يكبر على ابن آدم أنْ يفضّل الله عليه في الرّزق والمعيشة، ولا يكبر على ابن آدم أنّه قد فضّل عليه في علمه وعقله.
أوَلا يعلم ابن آدم، أنّ الذي رزقه في ثلاثة أوان من عمره، لم يكن له واحد منهم كسب، ولا حيلة، أنّه سوف يرزقه في الزمن الرابع، أوّل زمن من أزمانه، حين كان في رحم أمّه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، في قرار مكين لا يؤذيه فيه حر ولا قر، ولا شيء يهمه، ثم أراد الله أن يحوّله من تلك المنزلة، إلى غيرها، ويحدث له في الزّمن الثاني رزقاً من أمه، يكفيه ويغنيه من غير حول ولا قوة.
ثم أراد الله أنْ يعصمه من ذلك اللّبن، ويحوّله في الزّمن الثالث، في رزق يحدث له، من كسب أبويه، ويجعل له الرّحمة في قلبيهما، حتى يؤثراه على نفسيهما بكسبهما، وينتقيا روحه بما يعينهما ولا يعنيهما، في شيء من ذلك، بكسب ولا حيلة يحتالها حتى يعقل، ويحدّث نفسه أنّ له حيلة وكسبا، فإنّها لن يعينه في الزمن الرابع، إلا من أغناه الله ورزقه في الأزمان الثلاثة التي قبلها، فلا مقال له ولا معذرة إلاّ برحمة الله، هو الذي خلقه. فابن آدم كثير الشك، يقصر به حكمه وعقله، عن علم الله، ولا يتفكّر في أمره، ولو تفكّر حتى يفْهم ويُفْهِم، وحتى يعلم علم اليقين، أنّ علاقة الله التّي بها يعرف خلقه الذي خلق، ورزقه لمِاَ خَلَقْ. فرحم الله وْهباً، فإن أعماله كثيرة، ومواعظه مهّمة، وعلمه غزير، وزهده وعبادته ممّا استعمله في طاعة الله وبصّر به عباد الله، فقد صَحِبَ عبدالله بن عباس 13 سنة، وتوفي وعمره يقدّر بتسعين عاماً.