ترى ماهو المعيار القياسي المحدد والمعتمد الذي تستخدمه بعض الأنظمة العربية لتحديد قيمة الدم البشري النازف من أجساد الأبرياء ؟!! سؤال طرحته على نفسي مرات ومرات خلال متابعتي لكل الأوضاع والمشاهد المؤلمة التي تجري على الساحة العربية ...
هذه المشاهد التي باتت أقوى من أي رواية درامية متقنة الحبك، أو قصة يكتنفها غموضٌ عميقٌ ومحير يصعب فكُ لغزها، أو التنبؤُ بنهايتها. إن المشهد الذي يعيشه الوطن العربي في الوقت الحاضر يجعلني أعود قليلاً إلى الوراء.. إلى تاريخ سجل بعض الثورات التي كانت نقطةً فاصلة في تاريخ البشرية فغيرت من ملامح خارطة دول كانت تموج في بحر من الاستبداد والفساد.. وتئن من الفقر والجهل والمرض ، ومص عرق الكادحين.. وشعوب تجرعت كؤوس البؤس والحرمان فاستكانت تنتظرحتى حانت اللحظة الفارقة في حياتها فكُتِب لها تاريخٌ وعهدٌ جديد. ففي عام 1917 اندلعت الثورة البلشفية التي نظمتها الطبقة العاملة في روسيا دون قيادةٍ محددة أوخططٍ مدروسة ،وقد أوضحت هذه الثورة أن الشعب الروسي قد اكتفى تماماً من نظامه.. فهب بأعداد كبيرة رجالاً ونساء يجوبون الشوارع وهم يصرخون {الخبز.. أعطونا الخبز }. وفي مطلع عام 1989 هبت رياح التغيير على دول ماعرف بالكتلة الشرقية.. وقد اشتركت في هذه الثورة شرائح اجتماعية مختلفة ومتنوعة ، منها الحركات العمالية والشبابية، والمثقفون مروراً بالعاطلين عن العمل والفلاحين وغيرهم.. هذه الثورات قادت إلى تفكيك دول الكتلة الشرقية وسقوط جدار برلين.. . وحدث التغيير الجذري في البنية السياسية والاقتصادية والثقافية. ولم تكن هذه الثورات قاصرة على أجزاء من القارة الأوربية أو الاتحاد السوفيتي.. بل امتدت أكثر فأكثر لتصل إلى شعوب أمريكا اللاتينية.. وهكذا توالت الثورات تباعاً،ففي عام 1979 اندلعت ثورة إيران الخمينية التي أطاحت بشاه إيران وسلبته العز والسيادة، وأتت بالخميني الأشد بطشاً على شعبه، والأعظم خطراً على الأمة العربية والإسلامية.. وهذه الثورة غنية عن التعريف لما حدث فيها من مجازر ،وسفك للدماء ،والإبادة الجماعية. وطوال حقبة توالي الثورات التي هبت وعصفت بالبشرية، وأفنت ملايين الأرواح ظلت شعوب بعض دول العالم العربي ساكنة وكأنها تعيش خارج السرب.. . تمر عليها الكوارث، وتلفحها رياح الحروب العدوانية، ويتضور شعوب بعض أقطارها من المجاعات، وتعاني من الإضرابات الطائفية، وتئن تحت وطأة البطش والاستبداد، وتُقابَل مطالِبُها المشروعة بالإهمال والتسويف. هكذا بقي إنسان هذه الدول.. عاش عقوداً كاملةً دون رد فعل.. أو احتجاج ملموس.. . وبالتالي نما شعور متزايد لدى هذه الشعوب بالتدني والتراجع أمام باقي شعوب العالم في شتى المجالاتوفقدان التأثير في المحافل الدولية. هذا الواقع حرك مشاعر الاحتقان والغليان في قلوب هذه الشعوب فاستفاقت لتعيد الحسابات.. ودق الجرس معلناً بدء السباق المحموم وكانت تونس هي بارقة الأمل لقلب كل الموازين.. ثم تلتها ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر.. واستمر السباق ليطال كلا من اليمن وليبيا.. فاليمن ظل يكابد عشرات السنين ويالشراسة أثقال السنين على هذا البلد.. فلم تحتمل فوهة البركان قوة الاحتقان، وشدة الغليان فكان الانفجار مدوياً.. هب الشعب ليصنع تاريخاً جديداً له. أما ليبيا هذه الدولة النفطية قليلة السكان فقد كسرت وبقوة حاجزالصمت الذي امتد لأكثر من أربعة عقود عاشتها في ظل نظام حاكمٍ استمرأ على شعبه ونجح في إطالة نظامه الدكتاتوري.. . حاكمٍ مهووسٍ بالسلطة.. مخدوعٍ بالأمل الطويل.. شخصيته مزجٌ بين الاستبداد والجنون فكان الشعب ضحية استبداده وحماقاته.. وربما يعيد التاريخ نفسه مع هذا الحاكم الطاغية فيكون مصيره على يد شعبه كمصير الحاكم الإمبراطوري الروماني {نيرون} الذي ارتكب أكبر حماقة في التاريخ عندما أحرق روما عام 64م لإعادة بنائها من جديد.. وأدى ذلك الحريق إلى تفحم أجساد البشر.. بل بلغت به الدناءة قبل ذلك إلى قتل أمه وزوجته، وأخيراً حاول الانتحار لكن شعبه كان له بالمرصاد فوقع في قبضة يده. ومع تسارع الأحداث على الساحة العربية الملتهبة لم تكن سوريا بعيدة عن المشهد.. فتكررت الأحداث المتساوية في الجوهر والمختلفة في الخصوصيات تؤكد الواقع الذي تعيشه هذه الشعوب.. فبشار الأسد كان ولازال أسداً على شعبه وسوريا لها نصيب الأسد في نظم الاستبداد والقمع، واصطياد الرؤوس الوديعة الحالمة دون استثناء في الأعمار، وتغليب طائفة دون أخرى، وتفشٍ للفقر والبطالة، وضرب لأبسط حقوق الشعب وجرح للكرامة الإنسانية.. فانتفض الشعب السوري انتفاضة رجل واحد ليقتلع العطب من الجذور.. وتكون الصحوة شاملة للضمير والإرادة. انتفضت شعوب عربية بشعار واحد.. ولغة واحدة.. وإرادة قوية، وعلى الرغم من ضخامة التحديات إلا أنها أذهلت العالم بانتفاضتها.. وأثبتت للجميع أنها واعية بمطالبها الإنسانية مهما حاولت النظم التقليل منها.. أثبتت أنها قادرة على تحديد مصيرها بنفسها دون وصاية من أحد، وأن انتماءها لأوطانها سيسهم في بناء ماتهدم لمتابعة مسيرتها التاريخية. نظرة تعمق أخيرة يلقيها المراقب على هذه المشاهد الساخنة والمتلاحقة التي تمج بها الساحة العربية يدرك أن ثورة هذه الشعوب وانتفاضتها هو اكتشاف حقيقي لذاتها...
ففي مصر {ارفع رأسك أنت مصري} وفي الضفة الغربية وغزة حمل الشباب الفلسطيني شعارات ضد حماس وفتح تقول {الشعب يريد إنهاء الانقسام} وفي العراق ولبنان كان الشعار {إسقاط النظام الطائفي}أما في سوريا اختلفت كلمات الشعارات ولكن المغزى كان واحداً منها{والله سوريا حرة وبس}،{الشعب السوري واحد}إلى غيرها من الشعارات التي تبين مدى مرارة ماتعانيه هذه الشعوب.. ولكن يبقى شعار {الشعب يريد إسقاط النظام }هو الشعار الموحد الذي اختصر الطريق أمام هذه الشعوب الثائرة لتقول أمام العالم بكل ثقة وكبرياء وبصوت مرتفع [أريد هذا.... ولا أريد هذا].