الابتلاء سنة الله في خلقه، وشرع الله المواساة ومشاركة الناس أحزانهم ، ذلك أن المبتلى يأنس بمن حوله، ولما للمواساة والتسلية من جبر للقلوب الكسيرة، التي برّح بها الألم وملأتها الوحشة، ودب فيها اليأس .
الإنسان يسلى ويحاول أن ينسى ويتجاوز أحزانه باجتماع الناس حوله، وببوحه بمكنون ذاته، فلولا البوح، لتمكن اليأس في النفوس، فما تقوى على الحياة بعد من فقدت، و لضاقت الأرض بما رحبت، ولضاقت علينا أنفسنا. و لابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وهذه إعرابية فارقت مكاناً وخلاناً، لم تجد حيلة بعد الفراق إلا البوح والأنين، فما حيلتها إلا أنّات وزفرات تتصاعد من روحها، علّها تخفف حرّ ما تجد من لهيب الأشواق، وضنى الاشتياق، وحالها تصفه الأبيات التالية :
فما وجد أعرابية قذفت بها
صروف النوى من حيث لم تك ظنت
تمنت أحاليب الرعاء وخيمة
بنجد، فلم يكتب لها ما تمنت
إذا ذكرت نجدا وطيب هوائها
وأهلا بنجد، أرعوت وأرنت
لها أنة قبل العشاء وأنة
سُحيرى، فلولا أنتاها لجنت
مجنون ليلى، والجنون فنون، فطن لما للمواساة والمشاركة من أثر في تخفيف اللوعة، فكسر القاعدة، وأخذ يستجدي رفاقه ويطلبهم حينما تذرف عيناه الدموع مشاركته البكاء، وإلا استبدلهم بمن إذا جادت نفسه بالهم والحزن يقاسمونه هذا الإحساس ويبكون لأجله، فقول :
خليليّ إن لا تبكياني ألتمس
خليلا إذا أنزفت دمعي بكى ليا
وحينما تمكن الحزن من نفسه، أخذ يستجدي حتى الحمام مشاركته ألمه، فقال:
ألا يا حمامات العراق أعنّني
على شجني، وابكين مثل بكائيا
وفي نهاية قصيدته يقول:
خليلي، إن ضنوا بليلى، فقرّبا
لي النعش والأكفان، واستغفرا ليا
اللهم اغفر له، واجمعه بمؤنسة روحه .
النفوس التي شفّها الحزن، تساورها الهموم ، وتستبد بها الوحشة .
ما أجمل أن ترهف السمع لمحزون، وتعطيه فرصة ليلقي بمخزون قلبه، ويذرف دمعة حرّى من عينه .
حسن الإصغاء فن لا يتقنه إلا من استشعر معنى (أن تبسمك في وجه أخيك صدقة ) وأن الإمساك عن الشر صدقة، فكيف بمن يخفض جناحه، ويلين جانبه، ويهب بعضا من وقته، لأخيه المكلوم الحزين، فيمسح عبرة، ويسكن خفقة قلب ورجفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه).
آخر الكلام
أرقى وأروع الشكوى ما كان من يعقوب عليه السلام (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).
- القريات