حينما نتابع تفاصيل المشهد اليمني تتجلى عدد من المفارقات بين أنصار الرئيس ومناوئيه أو الشباب في ساحات التغيير؛ ففي حين يرفع الشباب مطلب دولة مدنية حديثة قوامه الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون هذا الهاجس الذي ظل يحلم به اليمنيون منذ زمن طويل وخاصة منذ...
...تولي علي عبدالله صالح الحكم نجد الصورة المقابلة لدى أنصار صالح يتغنون بالديمقراطية والشرعية الدستورية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في خضم ما يجري: هل هناك في اليمن ديمقراطية وشرعية دستورية؟
أبداً الإجابة بشعار صادم جدًا يختزل مشهد النفاق السياسي حينما تجد صورة كبيرة لصالح مكتوب عليها (الحياة قبلك عدم والحياة بعدك ندم) ماذا يعني ذلك؟ فهناك من وصلوا بالنفاق السياسي إلى حد تأليه الرجل والعياذ بالله. وسأورد هنا بعض الأمثلة من بعض القصائد التي مُدح بها علي عبدالله صالح والتي يجب البراءة منها حتى تكون حجة على من قالها وليس على الشعب اليمني.
ورحم الله الشيخ طه بن عبد الواسع البركاني من شيوخ الحرم المكي الذي أبلغني ذات مرة عتبه الشديد وعتب أئمة وشيوخ الحرم المكي على قصيدة في مدح علي عبدالله صالح تجاوزت كل الحدود، وقال لي أبلغ وزير الإعلام اليمني أن هذا لا يجوز وفي اليمن البلد الذي ناصر الإسلام وله فيه سابقة.
كانت القصيدة عنوانها: «علي يا بارق الغيمات» ومنها كما أتذكر:
علي يا بارق الغيمات امطرها
عطرا فشقر خد الأرض ريحانا
علي يا بارق الغيمات انطقها عشرا
ولا أخشى لا إنسًا ولا جانا
وأن تكن فوق من سادوا ومن حكموا
مثل النبي فهبني اليوم حسانا
لكن قمة السقوط في النفاق في قصيدة لشاعر آخر يقول فيها:
قف من علي القائد العملاق
في موقف الإجلال والإطراق
وأنشده شعراً لو تمس حروفه
شمس الضحى ركعت على الآفاق
في مدح أنبل قائد في حكمه
وأجل إنسان على الإطلاق
بيد أن الوصول إلى قمة المحذور كان في هذه الأبيات من قصيدة يشمئز من قراءتها كل ذي فطرة سليمة:
علي الذي لم يخلق الله مثله
ولا أنجبت أم وأنجب والد
هو الحكم الفصل الذي مالحكمه
انتقاص ولم يجرح به قط شاهد
خبير بأخلاق الرجال كأنه
على خلقهم في بادئ الأمر شاهد
ونستغفر الله ونتوب إليه من مثل هذه الأقاويل التي جعلت من الرجل ديكتاتوراً بامتياز وجعلته منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2006 يصرّح بكل فجاجة ما لكم غيري ولا يوجد من يحكمكم سواي، وارتفعت بذلك شعارات: «ما لنا إلا علي» التي تهون بجانب ما أوردت من مفردات النفاق السياسي التي جعلت منه شاهدًا على خلق الناس ونستغفر الله مرة أخرى.
لكن المضحك المبكي الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية كما نسمع وكعادة علي عبدالله صالح في استمراء الكذب وعدم إقامة أي وزن للشعب الذي يحكمه يعمد في خطابه السياسي إلى اتهام الأحزاب بأنهم مجموعة من العملاء والخونة وقطاع الطرق ومعه جوقة المطبلين من حزبه وخاصة في الحملات الانتخابية، وهذا الخطاب ومن وجهة نظر أي إنسان عادي وليس محللاً سياسياً هل يؤسس لديمقراطية أم يؤسس لاستعداء الناس على بعضهم.
أما مسلسل التآمر على الأحزاب وتمزيقها والذي يتفوق فيه صالح على كل من سبقوه وربما من سيأتي بعده فقد نجح وبامتياز بتمزيق كل الأحزاب وتحويل الحزب الواحد إلى أكثر من حزب تتنازع الشرعية، لكن قد يقول قائل إن الخلل في الأحزاب التي تمكن من اختراقها لكن الواقع عكس ذلك، فما ظنك حينما يستدعيك رئيس الجمهورية كقيادي في حزب ويظل يمتدح حزبك وقضيتك ويقول لك الوطن بحاجة إلى دوركم كحزب لكن المطلوب التخلص من بعض الناس مثل فلان وفلان، ويكون ردك بالدفاع عنهم وتزكيتهم لكن الرئيس يرد نحن لا نثق إلا فيك ومستعدون أن ندخل معك بتحالف كحزب حاكم وندعمك في الانتخابات القادمة ولك مبادؤك. ويوجه بصرف مبلغ دعم وتخرج من عنده ويستدعي زميلك أو زملاءك الذين أقنعك بالتخلي عنهم ويطرح لهم نفس الكلام ويصرف لهم مبلغ دعم أيضاً، وفي الأخير يجدون أنفسهم ضد بعض وهكذا تم تفتيت الأحزاب إضافة إلى زرع عناصر موالية للنظام مثل عبده الجندي وأحمد الصوفي اللذين كانا من أكثر الناس نقدًا وشتيمة للرئيس وحزبه، لكن ذلك النقد الذي ينحصر في الصراخ والعويل ولا يطرح قضية بعينها.
أما الأحزاب الجديدة التي يتم الترخيص لها فبمجرد أن يتجمع في هذا الحزب أو ذاك حتى لو عشرات الأشخاص وقبل أن يقوى عود الحزب يكون قد تم ضربهم ببعض بأساليب شتى، ومن ثم فقد كان النتاج الطبيعي لهذه المهزلة هو تلك المسرحية العبثية المسماة ديمقراطية والتي على مدى أكثر من دورة برلمانية لم يحدث أي تقدم لكن على العكس كل دورة تأتي بإفراز أسوأ من سابقتها ويضيق هامش المنافسة على الأحزاب والمستقلين وكما كان المشهد في مصر قبل سقوط مبارك.
في انتخابات مجلس الشعب التي اكتسحها الحزب الوطني دون أي منافس وطبعاً اكتساح ليس نزيهًا.
طبعاً وكما هو الحال في الأحزاب فإن منظمات المجتمع المدني هي الأخرى لا تخلو من العبث والتمزيق، وأوضح صورة نقابة المعلمين المقسومة إلى نقابتين واستنساخ كثير من المنظمات والنقابات وتمييع عملها، ورغم السيطرة الواضحة عليها من قبل الحزب الحاكم إلا أنها سيطرة بهدف التجميد وليس التفعيل أو حتى تجيير النشاط وبقي دور هذه المنظمات إصدار بيانات التأييد لخطوات القائد الموفقة وإنجازاته العظيمة.
وأخيراً نصل إلى تلك الملطشة التي تسمى دستورًا والتي يتغنى بها صالح وأنصاره ويرددونها على مسامعنا صباح مساء، وكأنما هي نصوص مقدسة مع أنهم أول الخارجين على نصوص هذا الدستور الذي يشهد من التعديلات كل عام ما يتجاوز العد والحصر كلما اقتضى الأمر من تمديد وتجديد، مثل تجديد أعضاء مجلس النواب للرئيس مقابل تمديده لهم بفترتهم، ومن ثم فإن هذا الدستور غدا أضحوكة وكل يوم يعاد تفصيله على مقاس جسم النظام الصالحي مع أنه شكلي لا وجود له، والبلاد تحكم من قبل مجموعة من العسكر بقيادة صالح وأبنائه وأبناء أخيه وعدد من المقربين، والدستور عبارة عن ملهاة شكلية للاستهلاك في وسائل الإعلام.
وليس أدل على اختراق الدستور وعدم احترامه من القيام بالاعتداء على المعتصمين سلمياً الذين يطالبون بالتغيير ويعطيهم الدستور هذا الحق في الاعتصام، ومع ذلك فإن المسبحين بحمد هذا الدستور هم من مارسوا الاعتداء خلافاً له.
ناهيك عن ذلك فإن الدستور المزعوم يحرم على المسؤولين في أجهزة الدولة ممارسة أي نشاط تجاري وكلهم يمتلكون شركات ومؤسسات احتكارية ابتداء بالرئيس وانتهاء بأصغر متنفذ من أسرته أو المحسوبين عليه، ومطلوب من الناس فقط احترام الدستور من باب تكريس هذا الوضع اللا دستوري.
إن المتأمل في المشهد اليمني مهما كان مستوى حياده وبعده عن العاطفة تجاه هذا الشعب المغلوب على أمره لا يملك إلا الرثاء الشديد لهذا الشعب الذي ابتلي بأرزاء مركبة ونكبات قد لا يتعافى منها بسهولة، ومن ثم فإن المشهد المعقد هو في وجود شروخ حادة في جسم البلد فهناك القضية الجنوبية وهي أصبحت شائكة ومتعددة الوجوه، فهي بين نظام وشعب وبين شمال وجنوب وبين طغمة وزمرة وكم من الصور المتداخلة وكلها من صنع وتغذية النظام، وهناك المشكلة الحوثية بكل تداعياتها ومحاولاتها الحضور بقوة في المشهد السياسي الحالي وهناك مشكلة بين القبائل والرعية وإن كانت هذه أهون المشاكل رغم كل محاولات النظام خلال عدد من السنوات لتكريسها وإيجاد معادلة أن هناك قبائل وهناك رعية مزارعين مستضعفين يجب أن يكونوا نهباً للقبائل.
وأخيراً فإن هناك صفحة من صفحات المشهد الديمقراطي المزعوم يدركها كل حصيف متأمل وهي مسألة توطين الفقر في المناطق ذات الكثافة السكانية والعمل بخطة ممنهجة في هذا الجانب لكي يسهل شراء أصوات العامة من الناخبين بعشرة كيلوات من السكر أو الأرز أو كيلو من اللحم، وأقرب دليل على ذلك معاناة مدينة تعز عاصمة الثقافة والوعي والاستنارة في اليمن والتي تفتقر إلى مياه الشرب منذ عقود، ويتهرب النظام من كل الحلول التي تعالج الموضوع بما في ذلك المساعدات الدولية المقدمة خصيصاً لمياه تعز.
ويطول الحديث عن مآسي نظام جوّع وشرّد وخان ودلّس على شعبه طيلة 3 عقود ونيف، ولكن الله يرحم اليمن واليمنيين منه ويختار لهم الخير والصلاح.
فاصلة
هناك خلط غير بريء بين المواقف الإنسانية والمواقف السياسية فيما يتعلق بموقف المملكة العربية السعودية مما يجري في اليمن، وبعيداً عن الخوض في التفاصيل فإن لسان حال المملكة وقيادتها الحكيمة وشعبها الأصيل هو قول الشاعر:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا