*** يختصمُ اللبنانيون فيحتكمون إلى الشارع، ويصطرع العراقيون فيُحرِّكون الشارع، ويتأدلج السلطويُّون فيشيرون إلى الشارع.. ويبقى القرارُ رهناً بإدارةٍ دونما إرادة؛ فالشارعُ في عمومه ليس وعياً، والشارع في خصائصه مع مَنْ علا صوتُه أولمع صيتُه.. وتجيئ معادلة الأكثرية والأقلية التي ترتكز عليها الإحالاتُ السياسيَّة والاجتماعيَّة (الديمقراطيَّة)؛ لتزييف القرار الموضوعيِّ العلميِّ الهادئ المبني على رأيٍ ورؤيةٍ من دون أن يسيِّره هديرُ الجموع.. في الشارع عاطفةٌ، وفي الشارِعيِّين اندفاعٌ؛ ولو وُكل الأمرُ في القضايا المفصليَّة لمن يُلوِّحون بقبضاتهم لجاءت القراراتُ متأثِّرةً بما يطلبُه اليومُ لا بما يطمحُ إليه الغد [التركي](1).
* قال أبو عبدالرحمن: الربيع العربي اليوم هو البذرة الأولى من صديد الشارع وإنتانه وهيجانه الجنوني، وهذا الكلام الجميل من أخي إبراهيم بن عبدالرحمن التركي له ذيول في مجموع هذه الحلقات.
** ترجم الدكتور عادل العوا كتيِّب (الأخلاق والسياسة) لريمان بولان رئيس جامعة السوربون بباريس، ومع صغر حجم الكتيِّب فإنه ثريُّ المعلومات بإيجاز، وقد عالج فيه أربعةَ عناصرَ متناقضةٍ في السياسةِ داخليِّها وخارجيِّها، ولا ريب أن السياسات المعاصرة بمظاهرها وبأكثر ممارساتها إنَّما هي أفكارٌ وضعيَّة بدأت بآراء الفلاسفة والقانونيِّين، وقد تكون لي جولةٌ عن ابتداء السياسات الوضعيَّة قديماً قبل الفلسفة اليونانيَّة على فترةٍ من الرسل عليهم الصلاة والسلام حدث فيها غلبةُ وثنيِّين، وحصولُ تحريفٍ وتبديلٍ، ثمَّ استقرَّت السياسة الوضعيَّة على جمهورِ المعمورة مع وجودِ الأديان الثلاثة لعواملَ كثيرةٍ لعلَّ الله يعينني على تناولها في إحدى المناسبات؛ وإنما يُبكي القلبَ أنَّ بعضَ الفلاسفة المنتمين إلى المسلمين كالفارابي وابن رشد أقاموا صرح الحلم بالمدينة الفاضلة على ما لخَّصوه من السياسات الوضعية من علوم الأوائل، وسألخص إن شاء الله مختصراً بتلك الكتب إلى هذا العصر.
*** العناصر الأربعة المتناقضة التي تناولها (ريمان بولان)(2) هي: أخلاقٌ بلا سياسةٍ، وسياسةٌ بلا أخلاقٍ، وسياسةٌ تشمل كلَّ الأخلاق، وأخلاقٌ تشمل كلَّ سياسةٍ.. ولكلِّ عنصرٍ تعريفٌ به خاصٌّ، والمهمُّ ههنا أنَّه عدَّ الأخلاق بلا سياسةٍ وهْماً، وهذا صحيح.. وعدَّ السياسة بلا أخلاقٍ فرضيَّةً مجرَّدةً ناقصةً، وهذا صحيح أيضاً، ولكنَّ ذلك لا يكفي، بل هي سياسةٌ عدوانيَّةٌ ظالمةٌ.. وعدَّ السياسة الشاملةَ كلَّ الأخلاقِ قانوناً يعني أنَّ السياسةَ شرطٌ لوجود الأخلاق، والواقع أنَّ السياسةَ شرطٌ لحماية الأخلاق ذات المعيار المستقلِّ العمليِّ المشترط في كلِّ سلوك.. وعدَّ الأخلاق الشاملةَ كلَّ سياسةٍ لا تعني سوى سَنِّ قانونٍ يلائم القَدْرَ المستطاع بين السياسة والأخلاق؛ وذلك بسبب النظرة الوضعية.
* أبو إبراهيمَ محمَّدٌ صديقٌ ودودٌ لزيدٍ، وأبو إبراهيم صاحب مزرعةٍ ويربي المواشي والطيور، وفي كل موسمٍ يُحْضر في سيارته الونيت شحنةً من المزرعة هديةً لصديقه زيدٍ، ويتحرَّى غفلته؛ فيضع هديته في بيت صديقه زيد ويهرب مسرعاً حتى لا يُكلِّف صديقه بغداءٍ أو عشاءٍ.. وذات مرَّةٍ جاء وسيارته مشحونة بخروفين وقنوان نخلتين كاملتين من أجود أنواع النخيل، وصادف مرورُه المسجدَ الذي يصلي فيه زيدٌ المؤذِّنَ يقيم الصلاة، وأبو إبراهيم على وضوء؛ فدخل المسجد؛ فلمحه زيد - وكان مكانُه دائماً روضةَ المسجد -؛ فأشار زيد إليه أن تعالَ؛ ليكون عن يمينه، وبعد تسليم الإمام أنهى زيد تسبيحَه على عَجَلٍ - وكان زيدٌ مادّ ْاً رجليه مضطجعاً؛ لأنه يرتاح لهذا على إِثر وقوعه في حفرة منذ سنوات -؛ فالتفت إلى أبي إبراهيم، وقال: ((الله يحيِّيك يالشرود.. الآن لا تستطيع الهرب))؛ فأراد أبو إبراهيم أن يطمئنه بأنه لا يستطيع الهرب، فقال: ((اليوم لا مهربَ لي.. ما تذكَّرتُ إلا الله الكريمَ ثم أنت.. أريد منك قرضاً لترميم المزرعة))؛ ففرح زيدٌ، ووضع بنانَ سبَّابته اليمنى على أرنبة أنفه.. ومعنى هذه الإشارة: (أبشر بتلبية طلبك).. والبادية تجيب بقولها: (عليه الشَّحم)؛ فقال أبو إبراهيم: ((جزاك الله خيراً هذا هو الأملُ فيك)).. وكان عند زيدٍ خمسةُ آلافِ ريالٍ لا غير ادَّخرها لنفقته، وفي ظنه أن يكون طلب أبي إبراهيم في حدود هذا المبلغ إلى عشرة آلاف ريال؛ فيتسبب في تحصيل خمسة آلاف أخرى من هنا وهناك؛ فالتفت زيد إلى جليسه، وقال: ((كم طَلَبُكَ يا أبا إبراهيم؟)).. قال أبو إبراهيم - بغير الترتيب النحوي -: ((مئةٌ وخمسونَ ألفاً))؛ فنهض زيدٌ جالساً، وقال: ((مئةٌ وخمسونَ ألفَ ريالٍ؟)).. قال: ((نعم)).. قال زيد: ((عربيٍّ سعوديٍّ؟)).. قال أبو إبراهيم: ((نعم))؛ فوضع بنانَ سبابته اليمنى على أرنبة أنف أبي إبراهيم لا أنفه هو، ورصَّه، وقال: ((على هذا!!!)).. ولكنَّ أبا إبراهيم تلثَّم وخرج من المسجد مسرعاً؛ لأنه لم يملك نفسه من الضحك المُسْترسِل الذي غلبه، وأسرع إلى بيت صديقه زيد، ووضع فيه الهدية الشحنةَ، وهرب كالمعتاد.
قال أبو عبدالرحمن: زيد وأبو إبراهيم من ذوي الأخلاق المجرَّدَةِ من أعباء السياسة.. أي من ذوي العنصر الأول من العناصر الأربعة التي يرى (ريمون بولان) أنها متناقضة.
** قال أبو عبدالرحمن: كلُّ الأديان الصحيحة، وكلُّ العقول التجريبيَّة إذا أخلصت للحقيقة لا تجعل السياسة قسيماً للأخلاق، بل هي موضوعٌ كالسلوك الاقتصاديِّ، والسلوك الصناعيِّ، وكل الحقول والمعارف النظريَّة والعمليَّة هي مواضيعُ تخضع لمعيار الحقِّ وجوداً وحكماً، ولمعيار الأخلاق العمليِّ المشتقِّ من معيار الحقِّ الحكميِّ، ولمعيار الجمال اللذيذ المشتقِّ من معيار الحقِّ الحكمي أيضاً؛ فالسياسةُ داخليُّها وخارجيُّها في الأديان الصحيحة سلوك مشروطةٌ شرعيتُه بالمعايير التي أسلفتها، ويعتري السلوكَ ما يعتري البشر من ارتفاع العصمة؛ فكلُّ البشر خطَّاؤون، ولكنَّ ذوي الأمر في الأديان الصحيحة لا يتَّفقون على سياسةٍ بمنطق العقل النظري غير معقولة، وبمنطق العقل العملي غير أخلاقيَّة، وبمنطق الإحساس الباطنيِّ تكون قبيحةً كريهة.
*** قال أبو عبدالرحمن: كلُّ السياسات الوضعيَّة السائدة على وجه الأرض اليوم (مهما كان خطابُـها الأدبيُّ الفلسفيُّ) لن تكون أخلاقيَّةً ولا معقولةً ولا جميلةً بإطلاق؛ وإنما يوجد ذلك في الدين الصحيح الذي يشهد له العقل التجريبيُّ، والبرهانُ على ذلك هو المعادلة بينما أسلفته من إحالة اتِّفاق ولاة الأمر من أهل الدين الصحيح على سلوكٍ سياسيٍّ ترفضه تلك المعايير وإن وُجِد النقص في بعض الأفراد.. والمعادل الثاني ما نشاهده اليوم من وجْهَي السياسة الخارجية (الأيديولوجي والنفعي) مِن اتفاقِ الدول القوية على هضم الدول الأخرى حقوقَها، وأعنف ما في ذلك (بطش الفيتو) الذي يسمونه حقاً.. وفي السياسات الداخليَّة نرى أنَّ إلغاء حقِّ الله الشرعيِّ في حكم عباده هو مصدر المعاناة البشريَّة اليوم إباحيَّةً وكوارثَ كونيَّةً ومجاعاتٍ وقلقاً وعدمية.
* تريد الديمقراطية أن تمنح الاستقلاليةَ وتضمنها لأكبر عدد ممكن من الناس: استقلاليةَ الرأيِ، ونمطِ الحياة، والشغل؛ ولأجل هذا يُعتبر من الضروري لها أن ترفض حق التصويت السياسي للمعوزين وللأغنياء جداً.. إنهما طبقتان غير شرعيتين!!.. يجب عليها أن تعمل باستمرار على إزالتهما؛ لأنهما لا تفتآن تضعان مهمتها موضع سؤال، وعليها كذلك أن تمنع كل ما يبدو أنه يرمي إلى تنظيم الأحزاب؛ لأن أعداء الاستقلالية الثلاثة الكبار (بمعناها الثلاثي الذي ذكرناه) هم المُعْدَمون والأغنياء والأحزاب.. إنني أتحدث عن الديمقراطية كما عن شيئ لا زلنا ننتظر مجيئه، أما ديمقراطية اليوم فإنه لا يُميِّزها عن الأشكال القديمة للحكومة إلا الجياد الجديدة التي تجرُّها.. الطرق هي نفس طرق الماضي، والعجلات هي نفس العجلات القديمة؛ فهل يكون الخطر أقلَّ مع العربات الحالية (عربات رفاهية الشعوب)؟! [نيتشه](3).
** قال أبو عبدالرحمن: بيننا وبين نيتشه غير مأسوف عليه أحد عشر عاماً ومئة عامٍ، وقد تبلورت في عهده الديمقراطية بأنواعها، ومُورِستْ في العالمين الغربيين إكراهاً، وكان مُسْرفاً في وضع مبادئ بعقله الخاسر تكون هي الدين والقانون، ويكون منها المبدأُ وإليها المصير؛ فمعايير الحق والخير والجمال كما جاءت بها الأديان الصحيحة، وكما آمن بها وبرهن عليها العقل التجريبي قيم بالية يجب إزاحتها بمبادئ نيتشه الوضعية.. لماذا؟!.. لأنها [أي معايير الأديان الصحيحة، والعقول التجريبية] الملجأ غير الحصين للضعفاء إزاء كل طغيان، بينما الحصن الحصين عنده مبادؤه الوضعية التي تُنجب الإنسان المتفوِّق.. ونيتشه أكفر فيلسوفٍ عرفته البشرية، والإنسان المتفوِّق الكافر بالله وبدينه وبالعقل التجريبيِّ هو البطل في كتابه المُعرَّب (هكذا تكلم زرادشت)، ولقد هلك نيتشه مصاباً بالشلل، وعلى إثره أصيب بالجنون.
*** أزمة الشارع التي ذكرها أخي الدكتور التركي كما نشاهدها الآن ألدُّ عدوٍّ للديمقراطية بمنطقها وبمجملها، وإن كنتُ غير مؤمن بذلك المنطق الإجمالي؛ لأنها إشاعة للفوضى والخوف والجوع، واستجلابٌ لإزهاق النفوس، وتعطيلٌ للخدمات والمرافق والمنشآت، والديمقراطية بمجملها ومنطقها الوضعي لا تبيح هذه العدمية وإن كان صانعوها هم الجماهير في الشارع.. إن الديمقراطية دعوة وحوار دائم، وإزالة لما يكسرها إذا وُجِدت الشرعية للتغيير بعد إفلاس الحوار، ولا يكسرها إلا الحرب إذا ملك أهلُ الشارع القوة، وأحسنوا المعادلة بين المصالح والمفاسد، وسعوا على التغيير بأكبر ما يملكونه من قوة لتفادي أفدح الخسائر.. أي التقليل من الأضرار بأقصى ما يُقدر عليه من الإمكان.. ويتميَّز أهلُ الدين الصحيح بما أسلفته كثيراً من الحفاظ على الدولة المسلمة، وتغيير الأَثرة والنقص بالدعوة العادلة سراً، وبالصبر، وبقرب البطانة الصالحة من ولاة أمورهم، وبتهيئة جمهور المجتمع دعوياً بلا مَلَلٍ.. وصلاح الراعي من صلاح الرعية؛ ومن ثم يجد الراعي من الرعية، وتجد الرعية من ولاة أمرها المخرجَ بإذن الله من كل الضغوط، والرياضةَ على ترك الأَثرة، واستصلاح النقص، وحسنَ الاختيار لشؤون المسلمين، وحسن الاختيار من الأسرة الحاكمة نفسها للأجدر الذي تنتظره المسؤولية مستقبلاً.
* تفاوتتْ مطالبُ الديمقراطية وأنواعها، وأعجب ما فيها الديمقراطية الماركسية التي هي عبودية عدوانية بمعنى الكلمة؛ فالفرد الذي جُعِل شيئاً من الأشياء الجماد نُزعتْ منه رغباتُه الفردية المشروعة، مع ما أتيح للأفراد من التحزُّب للمنافع والمبادئ كمبادئ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لا تضادُّ الماركسية، ولكن تكون وسائل لتطبيقها، ثم سِيقت هذه الأحزاب (المجرَّدة عن رغائب الفرد المشروعية) زرافات ووحداناً باسم (اللجان الشعبية)، وليس لها من الأمر شيئ إلا ما يُملى عليها من الحزب الشيوعي الحاكم، وقبضتُه حديديةٌ لا ترحم، ومجازره مروِّعة.. ووجد من انخدع بشعارات الماركسية؛ فلطَّفوا الوضع بجعل الدين مصدراً، وانحازوا عن الماركسية بغرس روح العدالة (مع العمال، والجدِّ في وصول عموم المنافع للأمة) في عقول الأحزاب ورجال البرلمانات.. ومع أن هذه الديمقراطية الاشتراكية أُمَـمِيَّة فهي ليست كذلك إلا بالدعوة والحوار، ويبدأ التغيير السلمي عند وجود الأكثرية المؤمنة بها ابتداء بالأمة نفسها وطناً وقومية، ومن المعروف كُفْر الماركسية بمفهوم القومية والوطنية والديانة، وأنها أُمميَّة بحتة.. والسيرة العملية في هذه الديمقراطية أنَّ دعاتها جادُّون في تحسين مستوى العُمَّال رحمةً بهم، وطمعاً في ازدهار حياة الأمة بجدِّهم في تحسين العمل وإنجازه، وتثق تلك الديمقراطية بتدرُّج المنفعة على المدى وإن طال بغير عنف، وكانت تعدُّدية الأحزاب عندهم غيرُ مزعجة؛ لأن تلك الأحزاب في تكيُّف دؤوب مع ظروف الوطن، والتوفيق بين مطالب الأمة ورغبات الأفراد بقدر محدود.. وهذه الاشتراكية الديمقراطية تسعى بجهد سياسي وحوار علمي لتكون أممية، وهي من جهة الدين والمعرفة والأخلاق في دائرة مجمل الديمقراطية الغربية، وقد تبنَّت إسرائيل الديمقراطية بصدقٍ وتطبيقٍ عملي؛ لأن لهم في دينهم (الذي أصبح أكثره وضعياً بسبب التبديل والتأويل) سعةً، ولأن الصهيونية لما أصبحت عقيدة كانتْ تسوِّغ كلَّ غايةٍ لبناء الدولة الإسرائيلية بأطماعٍ مستقبلية لا حدَّ لها؛ وبهذا أصبح كل فرد مُسْتَهْلَك الجهد لخدمة الدولة؛ لأن إيمانه بالصهيونية يقتضي هذه التضحية.. وفي هذه الديمقراطية الاشتراكية خيركثير من ناحية الازدهار الحضاري الدنيوي، وفيها سلام للمسلمين حال ضعفهم لو صدقت نية الأمم القوية؛ وبهذا تكون تعدُّدية الأحزاب والأديان والطوائف - في البلدان ذات التعدُّدية - في سلام دائم.. ولكنبين هذه الاشتراكية الديمقراطية والأديان الصحيحة فوارق جلية وفوارق دقيقة؛ فأما الفوارق الجلية فهي أن الأديان الصحيحة ثبوتاً ودلالة والعقل البشري التجريبي يقضيان بأن الكون كله خاضع لخالقه بإرادته لا تبديل لحتمياته؛ وبهذا يكون تشريع الخالق هو الأحق باستصلاح المخلوقات؛ وبهذا أيضاً لايكون مجمل الديمقراطية معيارياً، بل هو مقولة لغوية لمضمون وضعي خاضع لأحكام المعايير.. وأما الفوارق الدقيقة المؤثِّرة فقد أهملها كثير من المفكِّرين في البلاد العربية والإسلامية؛ لما يرونه من الثمار الحضارية الدنيوية، وأخذ بها بعض الزعماء عن قناعة وبعضهم عن ضغوط دولية، ونموذج ذلك الاشتراكية العربية التي تبنَّاها عبد الناصر، وكان برهانه القويُّ بيتَ شعرٍ لأحمد شوقي يردِّده كثيراً في خُطَبِه، وهو قوله في مدح عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
الإشتراكيون أنت إمامهمْ
لولا دَعاوَى القوم والغُلَواءُ
وهمزة (الإشتراكيون) لضرورة الشعر، وانضوى تحت شعارها حزب البعث (وليد الكاثولوكية العالمية؛ لإبعاد الأمة عن دينها؛ إذْ هو المرحلة اليائسة بعد حيل التبشير) الذي هو تنحية لكل دين، وحربٌ لا هوادة فيها، واستعاروا شعارات عبدالناصر في الولاء للقومية العربية، ومحاربة التجزئة المُحْتملة، والدعوة إلى الوحدة فيما هو متجزِّأٌ بدعوةٍ عاجلة، مع تَبْيِيْت النية على وحدةٍ إجباريَّةٍ مع علمهم أن شرط الوحدة اتِّحادُ الهدف.. ومن الشعارات كفاح الجهل والفقر والمرض، وهي مطالب من باب تحصيل الحاصل من ناحية ضرورة الاهتمام بها؛ لأنها مطالب كل أمة اشتراكية أو غير اشتراكية مع الاختلاف في مضمون العلم الذي يُراد به دفع الجهل.. والفوارق الدقيقة المؤثِّرة مجملةٌ في الأمور التالية:
الأمر الأول: أن الاشتراكية العربية حدَّدت الملكية الفردية ولم تُلْغها، ولكنه تحديد شبه الإلغاء؛ فالتملُّك للأراضي محدَّدُ المسافة ابتداءً، وهذا لا بأس به شرعاً من جهة الأراضي البيضاء؛ فإن وليَّ الأمر يُنَظِّمها، وفي تنظيمه لها يُراعي قدرات الأفراد خبرةً ومالاً؛ فيوسِّع لهم في التملك؛ للمزيد من الاستثمار وعمارة الأرض.. والاشتراكية العربية لا تقيم وزناً لهذه المراعاة.
والأمر الثاني: أنها قلَّصت الملكيات الفردية الكبيرة المستقرَّة بملكية صحيحة اتَّسعت بالشراء بِحُرِّ المال، وبالإحياء لأرضٍ بيضاءَ ليس عليها حقٌّ خاصٌّ ولا عامٌّ ولم يعترضها في حينها تنظيمٌ وتوظيفٌ مِن وليِّ الأمر.. وهذا ظلمٌ وعدوانٌ ينافي مفهوم الديمقراطية، وقد حصرتْ هذه الديمقراطية الباشوات من عهد فاروق في زوايا ضيقة من ممتلكاتهم، وسحبت المزارع كلها ممن أحيوا إحياءً شرعياً من عشرات الأعوام بعد مهلة سنوات قليلة.
والأمر الثالث: تقليص الاستثمار وعمارة الأرض من حيث الزعم باتجاه النية للاستثمار والعمارة؛ وسبب ذلك إسقاطهم الاعتدادَ بالحتمية الكونية من الخالق جل جلاله التي قضى فيها بفوارق بين الأفراد؛ فجعل لبعضهم من الموهبة والقدرة على التنمية والاستثمار وعمارة الأرض مما هو ليس لغيرهم من ذوي المواهب في مجالات أخرى، ومهما كان عند ذوي المواهب هؤلاء من النية الكريمة لخدمة الأمة فلهم دافع أوَّليٌّ فطريٌّ من أجل تحصيل المنفعة لهم ولولدهم وأهلهم وذوي القربى وداخلتهم، ولهم دافع غريزي من النشاط في استثمار مواهبهم، وهذه المواهب تخمل وينشلُّ عطاؤها إذا جُعلت آلةً صمَّاءَ، وحُرمتْ حقَّ الملكية الفردية بمنطق ماركسي صارم، أو منطق ديمقراطي يُقلِّص الطموح الفردي في الملكية.
والأمر الرابع: أنه لا خوف من الجشع الفردي إذا فسدت النية؛ لأن الأديان الصحيحة تُطلِق حرية الملكية الفردية بحقٍّ مشروع مهما اتسعت، ثم تُخضع المالَ والتنميةَ بالوازع الديني الوجداني في المستحبَّات كالصدقة، وتخضعه بالوازع السلطاني للحقوق الواجبة كالزكاة والضيافة ونوائب الأمة في الحرب والمجاعات.
والأمر الخامس: أن إطلاق حرية الملكية بحق مشروع مهما اتَّسعتْ إذا أُخذتْ من ثمارها حقوقُ المال يكون في المِلْك وثماره خيرٌ كثيرٌ للأمَّة بوجود فُرَص العمل للعاطلين، واستثمار المواهب والقدرات في التنمية، وتشغيل السيولة في بناء الوطن عمارةً وزراعة وصناعة واقتصاداً.. والشرع يمنع من كنز المال، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاة أمورالأيتام أن يشغِّلوا أموالهم حتى لا تقرضها الزكاة، والوعيد شديد لمن ولَّج المال فراراً من الحقوق كرصِّ الحلي من الذهب والفضة والجواهر مما هو فوق الحاجة بكثير؛ فهذا نوع من كنز المال، وهو تعطيل لحركة السيولة النافعة..وعلامةُ خمولٍ الأمة أن تجعل التنمية عبئاً على الدولة في فقرها وغناها من جهة التمويل، ومفهومُ الدولة في الدين الصحيح أنها منظِّمة موجِّهة، ويدخل في ذلك توجيه المال وتنظيمه، وكفاية عوز الأمة.. والأمة الناجحة هي التي تستثمر الأرض والمواهب، وتؤسس مع الدول في فائض المال الشركاتِ التعاونيةَ؛ فهي الخير والبركة، وللإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى كتاب مفقود في السياسة ولكن بقيت منه فصول ضمن مُخْتَصَرٍ لمجهولٍ جمعه من كتب الأحكام السلطانية للماوردي، وسراج الملوك للطرطوشي، وبهجة المجالس لابن عبد البر، والمبهج للثعالبي، والسياسة لابن حزم رحمهم الله جميعاً.. وهو مخطوط بالخزانة العامة بالرباط ضمن مجموع برقم 77ق/2، وقد رأيت فيما بقي من كتابه رحمه الله تعالى الحرصَ على جانب التصرُّف مع عدم إهماله التمويل، ورأيتُ جَمْعَه بينهما أحياناً حسب سعة الدولة والأمة؛ فقد نصَّ على وجوب عمارة البلدان(4) باعتماد مصالحها، وتمهيد سبلها ومسالكها، وتنفيذ ما يتولاه المسلمون من الأموال بِسُنَن الدين، ووجوبِ الحماية والذب عن الحريم.. لماذا؟.. ليتصرَّفَ الناسُ في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.. وقال رحمه الله تعالى بنص مبين: ((يأخذ الناسَ السلطانُ بالعمارة وكثرة الغراس، ويُقْطعهم الإقطاعات في الأرض الموات، ويجعل لكل أحد مُلْكَ ما عمره، ويُعِيْنه على ذلك؛ فبذلك ترخص الأسعار، ويعيش الناس والحيوان، ويعظم الأجر، ويكثر الأغنياء، ويكثر ما تجب فيه الزكاة.. ولا يمنع الإمام من البنيان الواسع، وأن يبلغ به غاية الإتقان والقوة، ولكن يمنع من التزويق والتزخريف(كذا) وما أشبه ذلك)).
قال أبو عبدالرحمن: لله دَرُّ هذا الإمام الفحل المبارك؛ فقد سبق عصره بقرون، وكما عُني رحمه الله تعالى بتنمية الأرض عُني بتنمية الإنسان ابتداءً بإمام المسلمين.. قال: ((ويتخذ من وجوه الكُتَّاب ووجوهِ الأطباء والعلماء والقضاة والأمراء قوماً ذوي آراء سديدة وكتمان للسر؛ فيجعلهم وزراءه الذين يحضرون مجلسه ويلازمونه في التدبير لجميع ما قلده الله تعالى من أمور عباده.. وإذا نزلت بالملك معضلة ليس عنده فيها يقين شاور من أصحابه وولاة حدوده من يرجو عنده فرجاً من ذلك، ويشاور في الحروب أهل الحرب وسياساتها، ويسأل عن كل علم أربابه، ولا يتكل على رأي أحد، ولا يُطْلعهم على ما يختار من رأيهم [ومن الخير أن يسمع أكثر مما يتكلم]؛ فإذا انقضى ما عندهم أنفذ ما رآه مما سمع منهم أو من رأي نفسِه إن رآه صلاحاً.. ويمنع أهل الفضول من الوصول إليه وملازمة داره ومجلسه؛ لئلا يُشْغل في مجالسه بمن لا يُجدي عليه مصلحة في دينه ولا دنياه، وليغلق الباب دون ذلك جملة؛ فلا يطمع أحد في الوصول إليه لغير معنى.. ويجعل الإمام عَشيَّ نهاره إلى الاصفرار للجلساء ويختارهم من أهل العلم والفضل والعقل وحسن التدبير: يخوض معهم في الفقه وفي سائر العلوم الشرعية، وفي مذاكرة السياسة وأخبار الناس من الماضين؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه ويذاكرهم ويشاورهم ويعلمهم، وكذلك كان الخلفاء بعده)).
قال أبو عبدالرحمن: هذه السياسة الكريمة ليست غريبة على الإمام الوزير ابن الوزير، وبهذه التربية السياسية يجمع الله عقولاً جمة في عقل إمام المسلمين؛ لأن مُسامرتَه ومنادمته لأهل كل تخصُّص من أهل الذكاء والزكاء (بالذال المعجمة والزاي)، والعادة أن ذا العلم النظري يقرأ كثيراً، ويختار لتأليفه وحفظه أحسن ما قرأ، ويختار لمنادمته ولاة الأمور أحسن ما اصطفاه في تأليفه أو من حفظه.. وهكذا أهل العمل الميداني يتدرَّجون إلى المنادمة بأحسن التجارب وأصدقها؛ فبهذا العقل المكثَّف بالخبرة لا ينال إمامَ المسلمين من رعيته عناءٌ، ولا تنال رعيَّـتَه منه غبنٌ.. وخير الولاة من أحب رعيته وأحبته رعيَّتُه، وبعد هذه التربية السياسية الفريدة بيَّن الإمام ابن حزم ما أوجبه الله على ولي أمر المسلمين؛ فقال: ((عليه أن يباشر بنفسه مشارَفةَ الأمور، وتَصَفُّحَ الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملَّة)).
قال أبو عبدالرحمن: اللهم اشهد أن هذه هي الديمقراطية التي نؤمن بها، ونتديَّن لله على نهجها بما شرعه الله سبحانه وتعالى، ونثق من ذلك بحفظ الضرورات الخمس، ومَنعة الأمة ورخائها، وحسنِ فراسة عقولها في حالات الضعف والضغوط بخروجٍ من الأزمات تُبْرمُه السياسة الراشدة في المعادلة بين المصالح والمفاسد.. وههنا ينتهي الأمر الخامس حول الفروق الدقيقة المؤثِّرة بين الديمقراطية الاشتراكية والأديان الصحيحة، وبقيت أمور يتسع لها إن شاء الله حلقة قادمة مع مداخلات عاجلة حول ما تمَّ تسطيره ههنا؛ فإلى لقاء إن شاء الله في الأسبوع القادم، والله المستعان وعليه الاتكال.
****
(1) فواصل في مآزق الثقافة العربية ص77-78.
(2) انظر الأخلاق والسياسة ص210-304/ دمشق/ طلاس للدراسات والترجمة والنشر/ الطبعة الأولى عام 1988م.
(3) إنسان مفرط في إنسانيته لنيتشه 2/207 بترجمة محمد الناجي/ أفريقيا الشرق عام 2001م.
(4) قال أبو عبدالرحمن: سمعت في إذاعة القرآن الكريم تحليل طالب علم فاضل يرى أن ذلك مفهوم إداري، والواقع أنه حكم شرعي صحيح، بنصوص الاستخلاف في الأرض، واستعمارنا فيها.