راكم غلافنا التراثي عبر الأزمنة المتتابعة من العزلة الصحراوية عدة طبقات من المصدات والدفاعات الاجتماعية التي كنا نسميها قديماً طبائع وصفات وصرنا حالياً نسميها خصوصيات. كنا نسمي تلك المصدات والدفاعات طبائع وصفات لنتميز بها عرقياً واجتماعياً عن الآخرين. بلغ بنا الغلو في تبجيل ما تجمع لدينا منها أن اتفقنا بالإجماع على التغني بالغزوات المتبادلة والسطو والنهب وقطع الطرق على أنها طبائع وصفات فروسية وأمجاد تستحق تدبيج القصائد الطوال بالفصيح والنبطي وتدريسها لأطفالنا في المدارس. هناك وجه شبه بين ما راكمناه تراثياً من الخصوصيات وبين الدرع السميك الذي راكمته السلحفاة عبر الدهور لتنكمش بداخله لحماية نفسها أولاً والبقاء على قيد الحياة ثانياً لأنها بطيئة جداً ولا تمتلك ما يكفي من التسليح الذاتي.
تراكم غلاف الخصوصيات البشرية الاجتماعية نتج عن النقص المعرفي والاعتقاد بالاختلاف الأخلاقي والعرقي ومن المحتمل أيضاً الإحساس بنقص الكفاءة في مجاراة اللاصحراوي المديني في طريقة أكله ولباسه وسكنه وحديثه وفي مهاراته الحرفية والصناعية. الصحراوي الذي عاش طويلاً في البداوة سوف يهرب من المدينة في نفس اليوم بعد شراء حاجاته الاستهلاكية منها، ليس لأنه يكره ما تقدمه المدينة من مياه وكهرباء وعلاج وإمكانيات تسوق وإنما لأنه يهاب التعامل مع أهل الحياة المدنية بشروطهم. إنه يعرف امكانياته المرتبطة بالرعي والتعامل مع الماشية ومنتجاتها والسطو عند الحاجة الماسة والتكيف مع ما تحمله الصحراء من مفاجآت، ولا يرى بأساً في أن يعطش أو يأكل زاده مختلطاً بالرمل أحياناً، لكنه يعتقد في قرارة نفسه أنه لا يمتلك ما يقدمه للمدينة. وجه العملة الآخر هو أن أبناء هذا الصحراوي يقاومون العودة إلى الصحراء بعد تجربة السنة الأولى من الدراسة أو العمل في المدينة لأنهم جربوا شيئاً أفضل.
من المهم أننا عندما نتفحص موضوع الخصوصيات نكتشف أنها مع الاستقرار المعيشي والتواصل مع الآخرين لم تفقد من طبقاتها الاحتمائية شيئاً يذكر بقدر ما ازدادت سماكة ًوتنوعاً رغم أنها تظل مجرد إفرازات التوجس الصحراوي من الجديد تمت إضافتها إلى العوازل والمتاريس التراثية القديمة وما هي في أغلبها سوى اشتقاقات منها.
لدينا حالياً قائمة طويلة من الخصوصيات التي لا أدري كيف تم الاتفاق الجمعي بدون تفكير أو نقاش على أنها تستحق التفاخر بها والمحافظة عليها وتوريثها للأجيال القادمة. من قائمة الخصوصيات على سبيل المثال رفض الزواج أو حتى فسخ القائم منه بإيقاع الطلاق القسري بحجة عدم تكافؤ النسب. الموضوع فعلاً من نوعية الخصوصيات المضحكات المبكيات. الشاب في مجتمعنا يمكن أن يتزوج رومية أو أعجمية أو من بنات الأصفر دون أن يسأل أو يسأل عن حسبها ونسبها وأصلها وفصلها، لكنه لا يستطيع الاقتران ببنت الجارالذي لا يختلف في شيء عن أهله إلا في الخيالات المصابة بداء التكاذب الاجتماعي المتفق عليه. من قائمة الخصوصيات أيضاً عطلة نهاية الأسبوع، نحن نغلق جميع مؤسساتنا المالية ومرجعياتنا الرسمية يومي الخميس والجمعة، والعالم كله يغلق يومي السبت والأحد. يوم الجمعة الجامعة هو اليوم المتفق عليه ويجب على كل مسلم التقيد به كعطلة رسمية، لكن ما دخل يوم الخميس ؟. عندما نضيف يومي الخميس والجمعة إلى يومي السبت والأحد نكون عزلنا أنفسنا عن الحركة الاقتصادية والعلمية العالمية أربعة أيام متتالية من كل سبعة أيام في الأسبوع على مدار السنة. هل لو أضفنا يوم السبت إلى الجمعة وجعلنا الخميس يوم عمل نكون قد تشبهنا باليهود ؟. أصلاً، ( وهذا لمن لا يعرف ) اليهود يوم السبت لا يطبخون ولا ينفخون ولا يغسلون ولا يعملون أي شيء غير النواح وهز الرؤوس وترديد الترانيم. أما نحن فسوف نعطي يوم السبت ما يستحقه من الطبخ والنفخ والحركة وبذلك نخالف اليهود في خصوصياتهم يوم يسبتون.
ما زال في الجعبة الكثير من الخصوصيات الغريبة العجيبة، ومنها قصم الظهور في المهور وتكاليف حفلات الزواج ثم هز الرؤوس تعجباً من هروب الشباب عن إكمال نصف دينهم. منها أيضاً أجواء الاحتفالات التي تشبه سرادقات عزاء يتبادل فيها الضيوف التثاؤب والنظرات الحزينة، ومنها الاحتيال على التعاملات البنكية بما يسمى التورق غير الربوي رغم ثبوت العوائد والفوائد من خلف الزاوية، ومنها أخيراً لا آخراً اختيار أشكال وألوان من الملابس للجنسين لا تتناسب إطلاقاً مع غبار الصحراء وشدة رياحها وارتفاع حرارتها بحجة أنها من خصوصيات اللباس الوطني رغم أنها لا تمت له بأي صفة لا بالشكل ولا المضمون. أزعم أن سكان الباكستان من الجنسين يلبسون بطريقة أفضل لستر الأجساد وللتأقلم من أجواء الصحراء مما نفعل. في الختام تبقى بعض الخصوصيات خصوصيات حقيقية وأصيلة تستحق المحافظة عليها، لكن أكثرها مجرد نفاق وعوائق اجتماعية واقتصادية.
* فيينا