تشير وسائل الإعلام بتعبير «الربيع العربي» إلى الهبات الشعبية التي قامت في بعض الأقطار العربية. وهذه الهبات انتفاضات لشعوب مكبوتة ضد متحكمين في تلك الأقطار ظلوا عقودًا من الزمن يتفننون في ارتكاب أعمال سيئة ضد أوطانهم وغالبية مواطنيهم.
وكان من رؤوس المتحكمين من انتبه من سباته العميق، وأفاق من غيبوبته؛ متأخراً جداً، فأدرك عدم قدرته على الوقوف أمام هبَّة شعبه، فاختار الهرب من وطنه خوفاً من تلك الهبَّة. ومنهم من حاول الوقوف أمام تيار هبَّة شعبه بوسائل مختلفة، لكنه - في نهاية المطاف - لم يجد أمامه إلا التنحي عن الحكم. ومع أن ذلك الهارب لم يهرب إلا مضطرًا، وأن هذا المتُنحِّي لم يتنح إلا مجبرًا، فإن النتيجة من فعل هذا وذاك جاءت أقل كارثية من نتيجة تمسك متحكمين آخرين بالسلطة مورِّطين شعوبهم، التي ابتليت بهم، بمواجهات دموية ترتكب جراءها جرائم شنيعة ليس من اليسير الخروج من مستنقعها أو نسيانها. وكل يوم يمر تزداد الكارثة عمقًا وسوءًا.
وكانت كلمة «الربيع»، في زمن شباب كاتب هذه السطور، تعني لدى عامة سكان وسط الجزيرة العربية أن الأرض مزدانة بالعشب نتيجة نزول الأمطار، التي لم يكن نزولها كما أصبح عليه الآن قلَّة. وهذا المعنى مطابق لما قاله الشاعر البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وفي ذلك الزمن الشبابي لم يكن يقصد بكلمة «الربيع» - لدى عامة الشعب - الفصل المعروف من فصول السنة الأربعة. فهذا الفصل كان يقال له عندهم: الصيف، ويقال عن فصل الصيف المتعارف عليه: «القيظ».
هبة الشعوب في بعض الأقطار العربية منها ما بدأت في فصل الشتاء، ومنها ما بدأت في فصل الربيع. والنتائج الإيجابية لها واضحة وإن اختلفت أثمانها؛ جرياً مع قول الشاعر:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
والمرجو من الله أن تكتمل ثمار تلك النتائج على أحسن ما يرام، وأن يدرك من قاموا بالهبات بأن اكتمال الثمار لن يحدث - بالضرورة - بين عشية وضحاها. ولذلك فإن من حسن السياسة - كما يرى كاتب هذه السطور - أن تقترن الحماسة والعزم بالصبر والحكمة؛ وبخاصة إذا كان هناك اطمئنان إلى أن المسيرة ماضية في الاتجاه الصحيح.
أما بعد:
فلئن كان لأمتنا العربية ربيع سياسي - كما وصفت أحداث الهَبَّات - فإن كل الفصول ربيع بالنسبة للصهاينة وكيانهم المحتل لفلسطين. ويكفي دليلاً على ذلك ما حدث في السنوات الثلاث الأخيرة، التي ظهرت - من خلاله - كتابات تقول: إن الدولة الصهيونية أصبحت معزولة عالميًا. وكانت قد نشرت في هذه الصحيفة، قبل عام، مقالة عنوانها: «عزلة الدولة الصهيونية». وقد أوضحت فيها أن ما يقوله البعض عن عزلتها غير مُسلم بصحته. ذلك أن تلك الدولة الإجرامية لا ترى أهمية لأي موقف يقفه العالم - هذا لو وقف - ضد جرائمها ما دامت أمريكا معها. وهذه الحقيقة سبق أن عبر عنها مجرم الحرب الصهيوني، موشى دايان، قبل أكثر من أربعين عامًا قائلاً: «لا يهمنا العالم كله ما دامت أمريكا معنا». والمؤلم أن قادة الدولة الأمريكية المتحكمة في مجريات كثير من الأمور الدولية لا يمكن إلا أن يكونوا مع الكيان الصهيوني؛ قلبًا وقالبًا. منهم من يقف معه نتيجة تصهين واضح، ومنهم من يقف معه نتيجة خوف من سطوة اللوبي الصهيوني داخل أمريكا، أو رجاء في مساندة هذا اللوبي في الانتخابات. أما المتصهينون فأمرهم واضح. وأما الآخرون فمن الأدلة على وضعهم الموجِّه لمواقفهم أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تستطع أن تبقى متمسكة بما أعلنته سابقاً عن معارضتها للتوسع الاستيطاني الصهيوني؛ سواء ببناء مستعمرات جديدة أو بتوسيع ما كان موجوداً منها.
إدانة الكيان الصهيوني - مجرد الإدانة - على الجريمة التي ارتكبها ضد غزة وأهلها، والتي لم تسلم منها مؤسسة تابعة للأمم المتحدة هناك، لم تتحقق. أما معاقبة ذلك الكيان على تلك الجريمة فأمر غير وارد أصلاً. بل إن من الجدير بالذكر أن رئيس حكومة بريطانيا - مثلاً - سعى إلى إلغاء ما ورد في قانون دولته عن اعتقال مجرمي الحرب الصهاينة متى دخلوا بريطانيا. وجريمة ذلك الكيان التي ارتكبها في مياه دولية ضد أسطول الحرية، الذي كان متجهًا إلى غزة، والذي كان من بين ضحاياه مواطنون أتراك، ذهبت معاقبته عليها أدراج الرياح. وكيف لا تذنب ونائب الرئيس الأمريكي قد قال: «إن ما قامت به إسرائيل كان من حقها، وإنه دفاع عن النفس». ومحاولة تسيير أسطول الحرية ثانية نجح الصهاينة - بمعونة المتصهينين - في جعل اليونان توقف إبحاره من موانئها. أما الحفاوة التي لقيها مجرم الحرب الصهيوني، نتنياهو، في أمريكا فشاهدها كل متابع لوسائل الإعلام. وكان أبرز وجوه تلك الحفاوة ذلك الذي تجلّى في مجلس النواب (الكونجرس)؛ إذ لم يعهد أن احتفى هذا المجلس بأي زعيم كما احتفى بالمجرم نتنياهو، الذي هو في مقدمة الزعماء الصهاينة؛ تهويداً لفلسطين؛ وبخاصة مدينة القدس.
وما حصل من انفصال جنوب السودان رسمياً عن بقية ذلك البلد الكبير هو نوع من أنواع ازدهار الربيع الصهيوني المستمر. وكنت قد قلت في مقالة سابقة: لقد كان في السودان قيادات سياسية عظيمة؛ مثل إسماعيل الأزهري، وقيادات عسكرية مخلصة من أمثال عبود وسوار الذهب. لكنه ابتلي برجالات لا يهمها إلا ثبات مقاعدها على كراسي الحكم. فكان ما يراه الإنسان من تمزق يبدأ بانفصال جنوب السودان عن شماله. والمرجو من الله أن لا تسري عدوى التمزق إلى الغرب، ثم إلى الشرق، ثم إلى أقصى الشمال حيث تؤسس دولة نوبية من أراضي شمال السودان وجنوب مصر.
ومن أدلة استمرار ازدهار الربيع الصهيوني ما حدث من انتهاء اجتماع ما يسمى بالرباعية في الأيام الأخيرة دون اتخاذ موقف إيجابي بالنسبة لما يحاول الفلسطينيون طرحه على الأمم المتحدة في شهر سبتمبر القادم فيما يخص إعلان دولة فلسطينية لهم على حدود 1967م. على أن كل من له فكر سليم لا يمكن أن يأمل إلا شراً من لجنة كهذه؛ لا سيما وممثلها بلير المشهور بعداوته لأمتنا، والذي يعلم الجميع كذبه؛ تأكيداً على هذه العداوة، حتى على شعبه بالنسبة لأسلحة الدمار الشامل، التي ادّعى أن العراق كان يمتلكها. وكان ذلك مسرحية لاحتلال ذلك القطر العربي المسلم. وكان ذلك الاحتلال، ثم تدمير بنيته، خدمة للصهاينة، كما صرح بذلك رئيس أركان القوات الأمريكية، التي تزعمت الاحتلال والتدمير.
ومن أدلة استمرار ازدهار الربيع الصهيوني، أيضاً، أن زعماء الدولة الصهيونية لم يكتفوا بمواصلة تهويدهم لفلسطين؛ أرضًا وتراثًا، ونهب مياهها؛ بل مضوا في تهويدهم لأراضٍ عربية غير فلسطينية، ونهب مياهها. ومن آخر ما يقومون به الآن محاولة اغتصاب مياه بحرية لبنانية مشتملة على كميات كبيرة من الغاز. وهم بكل خطوة قاموا بها، أويقومون بها، واثقون أن أمريكا، التي لا ترغب، أو لا تستطيع، أن تعارضهم لن تقف إلا بجانبهم.
الأدلة على أن كل الفصول ربيع بالنسبة للصهاينة كثيرة وكثيرة جداً. أما قحط الإرادة لدى أمتنا؛ شعوباً ومتحكمين، بالنسبة لقضية فلسطين فأوضح مظهرًا وأبلغ تأثيرًا وتدميرًا.