سُئلتَ مـرةً عبر لقاء أدبي: متى وُلدتَ، وماذا بقيَ في ذهنك من ذكريات الطفولة في مدينة شقراء، فقلت: أمَّـا عن مولدي متى كان.. فإن عمري هو ما بقيَ لي من عمر، أمّا ما مضى منه، فقد باتَ في ذمّه الأمس بفرَحه وتَرحه، ونوره وناره، وإشراقه وظلامه، أمّا عن طفولتي، فإنها لم تكن في شقراء ولكن في أبها، حيث ولدت لأب نجدي وأم عسيرية جمعهما النصيب الصالح ذات يوم خلال فترة إقامة سيدي الوالد هناك رحمهما الله وأرضاهما!
أما شقراء فقد كان لي معها موعدٌ لم يتحقّق إلاّ في مرحلة لاحقة من حياتي، فقد زرتُها لأول مرة بعد أن بلغتُ من الصَّبا عِتيّاً، وكنت يومئذٍ مرافقاً لـ(دليلي السياحي) سيدي المرحوم الوالد -طيب الله ثراه-، وتم ذلك بعد عودتي مبتعثاًَ من أمريكا في أوائل التسعينيات الهجرية.
بدأت الرحلة إلى شقراء بزيارة إلى (القصُور) الواقعة خارج المدينة بمسافة قصيرة، حيث وُلدَ سيدي الوالد رحمه الله، و(القصور) كما يسمّيها الأهالي هناك (مجمّع سكني) مفرط في التواضع، بناءً وتجهيزاً، وكان جدي لوالدي -رحمهما الله- ونفرٌ من أهل (القرائن) يقصدونه في الصيف.
ذُهلتُ حين أراني سيدي الوالد بقايا الغرفة التي شهدت ميلادهَ رحمه الله، وقد صادرت عواملُ التعرية معظمَ معَالمها، فلم يبقَ منها سوى أطلال لا تكاد تدركُها العينُ المجردة! ولم أصدّقْ لحظتئذٍ ما سمعتُ، لوْ لم يؤكد والدي، أن تلك المساحة المربّعة من الأرض الغارقة في الصَّغر لم تكن سوى (الغرفة) التي ضمّته وهو لم يزلْ في المهد وليداً!
ثم عرج بي (دليلي السياحي) رحمه الله إلى بلدة (القرائن) التي تنقسم إلى شطريْن، يُسمّى أحدُهما (الوقْف) والثاني (غِسْلة)، ويفصل بينهما (شُعيْب) أو وادٍ صغير لا يتجاوزُ عرضُه ثلاثة أمتار، وأخذ سيدي الوالد يعّطر سمعي بذكرياته في مرتع صباه (غِسلة)، فيما نحن نعبر (سكة) وندلف إلى أخرى وقد روى لي جزءاً من (الحرب الباردة) التي لم يهدأْ لها أوارٌ بين أطفال البلدتين، غِسْله والوقْف، وقد تحولت تلك (الحرب) عبر سياق السنين إلى نوع من (الفلكلور) الفكاهي، يطربُ لذكرها الآن الكبارُ والصغارُ من أهل البلدتين , ويستعيدُون ذكرياتِها وكأنّها حدثت الليلة البارحة!
ثم يتواصل السيرُ مع سيدي الوالد عبر (السكك) الضيقة، وكلما مرّ ببيت من البيوت المتلاصقة قال: هنا وُلدَ فلان، و عاشَ فلان، أو مات، ممن كانوا زملاء جِدَّه ولهوه، لعب مع بعضهم (الكعابة)، وتزامل مع بعضهم، بدْءاً بـ(الدراسة) برعاية مطوع المسجد ثم في أوقات لاحقة انتقلوا عبر مفازات الصحاري الموحشة على متن (الركايب) أو الخيل طلباً للرزق الحلال.
وفجأةً، توقف سيدي الوالد رحمه الله لحظاتٍ عند باب خشبي عتيق يختزل منظرهُ صفحاتٍ مطويةً من تاريخ غِسلة وأهلها، فلمّا سألتُه: ماذا يعني لك هذا الباب يا أبي حتى تقفَ عنده؟ قال، وقد ابتلّتْ عيناه بندَى الذكرى: (هذا بيت جدّك عبدالله.. الله يرحمه) فردّدْتُ معه عبارة الترحم، قبل أن يَستطردَ قائلاً: (خلف هذا الباب «وأنا أبوك») يقع (مقَهْوى) جدك عبدالله , وكان يقصده القريبُ أو الجارُ أو الغريبُ بعد صلاة كلّ فجر، ويتناولُ معه حبَّاتٍ من التمر (القدوع) مع القهوة ثم الحليب المطعّم بالسكر والزنجبيل، وقد يتاح له ما تيسّر من طعام خفيف قبل أن يَنطلقَ إلى مسَاراتِ العيش في (النخيل) أو التجارة ونحوهما، وكنت (والحديث لم يَزلْ لسيدي الوالد)، (.. أجلس مع ضيُوف والدي مُمْسِكاً عن الكلام أو أُساعدُ في ممارسة طقوس التكريم لضيوفه).
هنا، همست لسيدي الوالد مبْتَسماً ونحن نُبْعدُ عن مواقع الذكرى قائلاً: (أحسبُ يا سيدي أنك كنتَ أسعدَ منى حظاً بطفولتك وبعض صباك، ولكنّني في الوقت نفسه، كنتُ أسعدَ حظّاً من أطفال (غسلة) و(الوقف)، فقد درأْتُ عن نفسي الأَذىَ من (حَرْب البسُوس) بين أطفال البلدتين! فابتسم رحمه الله وهو يقول (بما معناه): الشّقَا وأنا أبوك واحد, ولكن بأوْجهٍ مختلفة! والحمد الله من قبل ومن بعد.