لم يعد يحتمل كل ذلك التلوث الذي يحيط به، التلوث الذي يتنفسه فيصبغ رئتيه بالبقع والمواد اللزجة، التلوث الذي يهيج عينيه فتبقى ملتهبتين، التلوث الذي يتراكم في أذنيه، التلوث الذي يجعله يهرش جلده بقسوة كي يتخلص من طبقاته المتراكمة.
يريد لهذه المعاناة نهاية، ولكن لا أحد ممن حوله يلقي بالاً لم يره هو وبالاً عليه وعلى من حوله..
يمشي في الشارع بين الجيران، وفي مقر عمله بين الزملاء يحمل أوزار هذا التلوث، كان يشعر كغريب وهو بين من يُفترض بهم أن يكونوا الأهل والصحب.
تعب! إرهاق! حياة لا تُطاق... هكذا كانت الأصوات في داخله، تتظاهر وتندد، وتدين، وتطالب...
الثورة تسكنه.. بل تزلزله.. وجسده المحدود حجماً وقدرة منهكٌ اليوم.
يتعاظم شعوره بالقذارة عندما يكون في مناطق مزدحمة بالناس، ويكبر هذا الشعور أكثر عندما يكون هؤلاء الناس من معارفه... الآن التوتر يصل مداه، فالعامل في المطعم قذر ملوث بالغش وبرداءة الطعام الذي يبيعه وببذاءة كلماته وهندامه، سائق اللموزين الذي أمامه أصبح طائشاً في قيادته وكأنه قد وُلد في هذه البلد، وأسوأ من ذلك أنه وسط الزحام يفتح باب سيارته ويبصق إفرازات حلقه في الشارع على مرأى من الجميع دون إحترام أو حياء، وهؤلاء الأجانب كوم، وأبناء البلد أكوامٌ أخرى.
ارتطم بأحد المارة وهو يحمل كوب قهوته.. انتشرت القهوة حتى كونت بقعة بنية على امتداد ثوبه... المنظر الآن محرج.. لكنه لم يكن يوماً إلا متوتراً ومحرجاً بل يشعر بالعار من نفسه وقومه، ويشجع – في نفسه فقط - الجميع على أن يشعروا بالعار من حالهم المزري هذا.
أعجبته هذه البقعة، هو يكره القذارة، لكن هذه البقعة قذرة وتُقر بقذارتها، ابتسم لها، لم يمد يداً إليها، شعر أنه سيؤذيها إن فعل... تركها تتمدد على بطنه وساقيه طوال النهار وهو في مكتبه، وهو في الممرات بين الزملاء. صار في كل صباح وهو خارج من المقهى الذي يأخذ من القهوة كل يوم، يسكب ربع كوبه على ثوبه، ويخرج منشرحاً ليكمل يومه محاطاً بكل تلك القذارة، غير آبهٍ بها..!!