تعج بلادنا الحبيبة بالجمعيات الخيرية وما شابهها كالضمان الاجتماعي وصندوق مكافحة الفقر وتتواجد في مختلف المناطق بل والمحافظات والمدن، تصل مواردها إلى آلاف الملايين. وعندما نتفحص مصروفاتها نجد أنها متعددة، إلا أن أهم مجال ألا وهو إيجاد فرص العمل أو ما يُسمى بالمبادرات أو الحاضنات وكذلك الأسر المنتجة لا يقوم بها إلا القليل جداً من هذه الجمعيات. ولو ألقينا نظرة على ميزانيات هذه الجمعيات لوجدنا لديها سيولة كبيرة واستثمارات متنوعة ونقدية في صناديقها.
يوجد بالمملكة بلد الخير والعطاء ومملكة الإنسانية 558 جمعية خيرية وتحصل هذه الجمعيات على إعانة من الحكومة تبلغ 226 مليون ريال وذلك لدعم الفئات المحتاجة من الأيتام والأرامل والمطلقات والمعاقين والمسنين والمحتاجين.
إن هذا يجعلنا نعيد النظر في مثل هذه الجمعيات وما تقوم به وتركيز بعضها على الإعلام ونشر الصور (خاصة الخاصة) وكأن هدف بعض المسئولين منا هو إظهار صورهم (وترززهم) خلافاً لهدف أصحاب هذه الجمعيات أو الوقف وخلافاً لما معناه في الحديث الشريف (.... رجل تصدق وأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه....).
إن معظم مصروفات الجمعيات هو للأغراض الاستهلاكية المتعددة ولكن القليل (إن وجد في بعض الجمعيات) يكون هدفه إيجاد فرصة عمل أو تعليم المحتاج إلى حرفه يتكسب بها، عملاً بتوجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لشخص محتاج بقوله: (خذ فأساً واحتطب) أي تكسَّب من عرق جبينك.
إن شهر رمضان المبارك قد أقبل علينا ومتوقع وكالعادة مضاعفة ظهور العديد من المتسولين المحليين والوافدين والذين تجدهم طول العام والأيام وحتى ساعات متأخرة من الليل عند إشارات المرور (وبخاصة النساء والأطفال)، الحديث عن الجمعيات يجرنا إلى الحديث عن الضمان الاجتماعي والذي يمول بشكل أساس من إيرادات الزكاة التي تجمعها الدولة والتي تبلغ نحو 16 مليار ريال وهي ركن من أركان الإسلام كما هو معروف تُؤخذ من الأغنياء وتُعطى للفقراء إضافة إلى دعم الدولة لإيرادات الزكاة للصرف على المحتاجين لقوله تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [التوبة:103].. وإن كان هذا المبلغ لا يمثل مبلغ الزكاة الحقيقي والذي يبلغ أضعاف هذا المبلغ إما للتهرب من دفع هذه الزكاة من بعض ضعيفي الإيمان أو لأن بعضها يذهب لبعض الجمعيات الخيرية أو دفعه لبعض النشاطات الاجتماعية وحسمه من الزكاة. لذا يجب أن يتم إعادة النظر في وسائل تحصيل الزكاة مثلاً: لو سمح للأشخاص بدفع نسبة من زكاتهم مباشرة وتحويل المصلحة إلى هيئة عامة مستقلة ويضم لها الإشراف على الجمعيات الخيرية. أما الجمعيات الخيرية فمنها ما يمكن أن نسميها عامة مثل جمعيات البر والأيتام والمعوقين وهذه إيراداتها ضخمة، إلا أنه يوجد جمعيات يمكن تسميتها بالخاصة والتي تقوم بتوزيع الصدقات والأغذية والملابس صيفاً وشتاءً، بل لديهم معلومات لا توجد حتى في الأجهزة الحكومية المختصة كالضمان الاجتماعي.
لقد اطّلعت الأسبوع الماضي على نشاط جمعيتين رائدتين في عملهما الخيري الهادف، الأولى: جمعية خاصة أسسها الابن البار لوالده فهد عبد العزيز العوهلي بعنيزة ومن ضمن أهدافها: (إنشاء وحضانة مشاريع مهنية وتجارية للعمل بها ويمتلكها أبناء المجتمع الأكثر حاجة وكذلك تبنى العمل التطوعي المؤسسي المستديم) ولدى الجمعية ما نسميه بحاضنة أعمال تقوم بتدريب مجموعة من الشباب السعودي وبالتعاون مع صندوق الموارد البشرية حيث يصرف لهم 2000 ريال مكافأة شهرية من الصندوق ويقوم صاحب الجمعية بتوفير رأس المال (قرض حسن) وبعد أن يتم تدريبهم ويعملون، يتم استرداد رأس المال فقط من أرباح المشروع والتي هي من حقهم 100%.. ولقد رأيت آخر مشروع مولّه وهو ضماد التمور حيث يقوم الشباب بتنظيف التمور وتصنيفها ثم كبسها في أكياس وتعليبها وبعضها بعلب فاخرة صناعة محلية أيضاً ليتم بيع المنتج لحسابهم. ولدى هذه الجمعية مركز تدريب في مقر المؤسسة. أتمنى أن أرى الجمعيات الخيرية تركز على إيجاد فرص العمل بالتعليم والتدريب وألا تعطيهم شيئاً ليأكلوه فقط ليعودوا ويطلبوه مرة أخرى، وإنما يتم تعليمهم حرفة ليتكسّبوا بها أي (أن يعلموهم صيد السمكة لا أن يعطوهم سمكة) والمشروع الآخر لجمعية خيرية أخرى لتقديم خدمات صحية متطورة فقد قامت جمعية الوفاء الخيرية بإنشاء مستشفى بتخصصات مختلفة ومن ضمنها قسم خاص بكل ما يتعلق بطب العظام والعمود الفقري وبتجهيزات متكاملة بمواصفات عالمية بالتكلفة، وجلبوا له استشاريين ألمان (أيضاً من جهة خيرية ألمانية)، وتكلفة العلاج لديهم أقل بكثير من أفخم المستشفيات الخاصة بالمملكة.
هاتان الجمعيتان بالقصيم مثالٌ نتمنى أن تحذو حذوهما جميع الجمعيات الخيرية بالمملكة.
إن هذه التجارب تجعلنا نفكر جدياً بجدوائية الأعمال التي تقوم بها الجمعيات الخيرية وأهمية التركيز على تعليم المحتاجين لحرفة يتكسبون بها وليس لسد حاجة آنية فقط ولا للقضاء على الفقر المدقع فقط كما صرح معالي وزير الاقتصاد والتخطيط بأنه تم القضاء على الفقر المدقع، والذي يجب ألا يكون هو الهدف فقط للوزارة وإنما بالتنسيق مع وزارة الشئون الاجتماعية والجهات الأخرى مثل صندوق الموارد البشرية، وأن يتم توحيد العمل لتحقيق هذا الهدف تحت إدارة واحدة بما في ذلك مصلحة الزكاة والدخل وغيرها وأن يتم معالجة ظاهرة التسول والقضاء عليها وإبعاد المتسولين الوافدين إلى بلادهم.. وأن يكون هدف الجمعيات الخيرية خلق مواطن عامل ومنتج.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] [البقرة:286].
والله من وراء القصد.
مستشار إداري واقتصادي
musallammisc@yahoo.com