ذات ليلة في هـذا الصـيف الملـتهـب كـنت أقلب القنوات الـفضائــية، فاستـوقــفني حديث نفيس لفضيلة الشيخ الدكتور عبدالعزيز الفوزان عبر برنامج فتاوى على شاشة إحدى القنوات المحافظة، حيث كان يتحدث بشكل موجز ومركز عن (فقه التعامل مع غير المسلمين)، حيث بدأ بالتطرق إلى إشكالية فهم ديني لدى كثير من عامة الناس، بل ومن طلبة العلم الشرعي في مسألة الولاء والبراء، حينما يعتقدون أن تحقيقها يكون بمضايقة غير المسلمين، أو سوء التعامل معهم، أو التعدي عليهم وأخذ حقوقهم، موضحاً أن هذا التصرف جهل واضح وخطأ كبير، لأن القصد بالبراء من غير المسلمين هو البراءة من شركهم وكره كفرهم الذي يحملونه وكذلك كره وإنكار المعاصي التي يرتكبونها في مقابل التعامل الطيب معهم والإحسان إليهم، ثم ذكر أن غير المسلمين (الكفار) ينقسمون إلى فئتين، الأولى الكفار المحاربين الذين يقاتلوننا ويعتدون علينا، والأخرى الكفار المسالمين الذين يعيشون بيننا ويتعاونون معنا، مبيناً أن حق فئة المحاربين هو العدل معهم وأول هذا الحق أن لا نعتدي عليهم أو نظلمهم وإذا قاتلونا لا نقتل نساءهم وأطفالهم، وهذا من عظمة هذا الدين، فرغم أنهم يحاربونك إلا أنه لا بد أن تعدل معهم في كل الأمور، أما الكفار المسالمين ففوق العدل معهم يكون البر بهم بالمعروف، ومعاملاتهم بالحسنى في كل مناحي الحياة.
ما تحدث عنه الشيخ الفوزان لم يكن حديثاً فارغاً أو إنشائياً، بل مدعوماً بوقائع وأحداث وأقوال صحيحة من السيرة النبوية التي تعتبر المعيار الأول والرئيس في فقه التعامل مع غير المسلمين، مشيراً إلى أن الله جعل الناس شعوباً وقبائل لـ(يتعارفوا) وليس ليتباغضوا أو يتقاتلوا. كما لم يفت على الدكتور عبدالعزيز الإشارة إلى مسألة مهمة يغفل عنها الخطاب الديني في بعض أدبياته المعاصرة، التي تتناول العلاقة مع الآخر المخالف عقائدياً بسبب حالة الاحتقان القائمة اليوم مع الغرب، وهي أننا أمة رسالة عالمية وحملة أمانة كونية، ما يعني وجوب الحذر والحرص والاهتمام في كل تعاملاتنا الدنيوية وعلاقاتنا الإنسانية مع غير المسلمين، وكما قال الشيخ يجب أن نكون رحماء بهم ونسعى لإسعادهم. ثم ذكر الآية الكريمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران، مؤكداً أن كلمة الناس هنا ليست محصورة بالمسلمين، إنما عامة لجميع البشر بمختلف أديانهم وأجناسهم.
بتقديري أن هذا الحديث النفيس الذي جاء مقدمة برنامج الإفتاء يكتب بماء الذهب في دساتير المسلمين في علاقاتهم مع الآخرين، لأنه يؤكد عالمية الإسلام وشمولية شريعته وعراقة حضارته، فضلاً عن أننا بحاجة ماسة لإشاعة هذا الفكر الواعي والطرح الراقي بين الناشئة في المدارس والمساجد والمراكز الصيفية والمنتديات الثقافية ووسائل الإعلام المتعددة، خاصةً بعد محاولة اختطاف عقائد الإسلام من قبل أولئك الإرهابيين وتشويه قيمها وحرف مقاصدها حتى كاد هذا الفعل المشين أن يطمس أعطر تاريخ عرفته البشرية بالرحمة والتعايش والسلام لأكثر من عشرة قرون. ما يتطلب أن يكون خطابنا الإسلامي المعاصر، مُعبراً عن حقيقة ديننا ومُستشهداً بتاريخنا.
kanaan999@hotmail.com