يدرس الطلاب في المدارس: الكيمياء، وبعضهم قد لا يدرك علاقتها بجسمه، إذ الأطباء والصيادلة، يرونها عنصراً مهماً في الدراسة إبّان تخصصهم، ولذا فإن من المناسب التحدث عن الكيمياء البشرية. إذ كان حديث، عن تصور علمي تخيله بعض الكيميائيين..
..... في بلاد الغرب، للجسم البشري، وقارنوه بالمعامل الكيماويّة المحسوسة في حياتهم، لتثبت في الأذهان بما يدل على مكانة الكائن البشري، وعِظَم ما سلك الله فيه من عجائب وغرائب، وهذا الاصطلاح من باب مخاطبة الناس بما يدركون، لتمكين المعنى من باب تقريب المعقول بالمعهود. وهذه الكيمياء البشرية، فرصة لدعاة الإسلام -من باب مخاطبة العقول بما يؤثر فيها-، ليجدوها واحدة من الوسائل المقنعة بعظمة هذا الدين، والموصّلة وجدانياً بالعقيدة الإيمانية التي تبين أن للكون رباً يرعاه، وخالقاً يصرّف شؤونه، حسبما يبرز في هذا الجسم البشري من أسرار وعجائب.
والمعامل التي تخيلها الكيمائيون تؤدي وظائف الجسم المعهودة لديهم، فبرز ذلك في «49» معملاً إذ إن المعمل لا بد له من طاقم إداري وفني، يوجهه ويشغله ليؤدي دوره، وإلا وقفت الحركة فيه.
والجسم البشري الذي تحوطه عناية الله، وترعاه إرادته جل وعلا، وقدرته النافذة في كل لحظة من لحظات حياته، وتوجه كل عمل دقيق في أجزاء الجسم، بعناية تكلؤها رعاية الله.
وفي هذا مدخل دقيق يجب ترسيخه بالحوار والنقاش في أذهان من لا يؤمن بوجود الله بالمحسوس من العقول، بأن للجسم رباً يسيّر أعماله، كما أن الكون كله تتنظم مسيرته بحكمة وإتقان بعناية الله سبحانه، القائل إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) سورة البقرة. والعرب قد دخل عندهم هذا العلم ويسمونه السّيماء.
وسنلمّ في هذا الحيز، بجزء من توضيحات الكيميائيين عما تخيلوه من باب الاستئناس بما تخيلوه معملاً في الجسم البشري، فمن ذلك قولهم:
- قشرة المخ تخيلوها، من واقع ما تقوم به من عمل: تماثل مكتب المهندس الكيميائي، فإن التقارير ترسل إلى هذا المكتب، وبدراسة المستشارين المختصين تتخذ القرارات التي تتحكم في الحركات الإدارية للآلة البشرية، ثم يبدأ النزول إلى:
- مقدمة الجبهة، الفصوص الأمامية، فمثلوها بمكتب الإدارة لشؤون العاملين، والمهمة الملقاة عليهم تختص بالاستجابات العاطفية، تليها في التدرج العملي.
- القشرة الحسيّة للمخ، التي ترد إليها التقارير الواصفة للبيئة، المحيطة بالجسم، لإرسال الإشارات المعينة على وقايته، والمحافظة عليه من المؤثرات الخارجية.. ثم تليها:
- القشرة الحركية: وهي غرفة عمليات مهمتها بعث الرسائل التي تتحكم في حركات الجسم، وهي حركات تمر بالإنسان تلقائياً في يديه ورجليه، وبحركات عديدة تتنوع بحسب عمل كل حركة.
- وتشبه مراكز السمع في المخ الأرشيف، ففيه يتم اختزان المعاني لعدد كبير من مختلف الأصوات والكلام، وتمييز دلالتها، وأسماء أصحابها، فرزاً وتوضيحاً، ولذلك فإن الإنسان يتذكر من حادثه ولو بزمن بعيد ويعرفه.
- كما تحتوي الأذن على مكبر صوتي، يستقبل الموجات الصوتية، التي تتراوح ذبذباتها بين 16 سيكل - 40000 سيكل في الثانية، وتنقل هذه الذبذبات إلى القشرة السمعية للمخ، وتحتوي الأذن أيضاً على جهاز للقياس يرسل تقارير بتحركات وموضع الرأس، وباستجابة إلى هذه التقارير يستطيع الجسم أن يحافظ على اتزانه.
- أما المركز البصري في القشرة المؤخرية من الرأس فإنه يمثل الذي يتلقى ويختزن الصور المرئية، ومن هنا فإنه من غير المستغرب أن نرى من يتكئ على مؤخرة رأسه إذا أراد أن يستذكر شيئاً نسيه، لأن مخزن المعلومات التي رأتها العين، ترتكز في هذا الموضع الذي جسمه واضعو هذا التصور بمستودع للملفات المختزنة بصرياً، إلى جوار مستودع الملفات المختزنة سمعياً.
- والعين تشبه الكاميرا التلفزيونية لها انضباط بؤري تلقائي وهي تنقل الألوان إلى الداخل بواسطة دائرة مغلقة إلى القشرة البصرية في الملفات المؤخريّة، عند الجزء المؤخري للمخ، فهي تأخذ وترسم والمركز البصري يخزن ويسجل، ليعطي المعلومات عندما تطلب منه بواسطة شبكة عصبية دقيقة، ومرهفة الحس، فسبحان من قدّر ذلك وأحكم صنعه.
- وفي النخاع المستطيل في الجزء الخلفي من المخ توجد وسائل للتحكم التلقائي التي تنظم سرعة وعمق التنفس وسرعة نبض القلب وضغط الدم وتدعى وسائل التحكم هذه بالمراكز الحيوية، لأن وظيفتها السلمية ضرورية للحياة، وقد جعل الله في هذا ما يشبه الأجهزة الأوتوماتيكية الحديثة، التي تعمل تلقائياً فيما يوازن متطلبات الجسم وعمل أجهزته الدقيقة البديعة.
- أما الهواء اللازم لتشغيل الجسم، فإنه يتم ترشيحه أثناء مروره خلال مجرى فتحة الأنف، وفي ذلك المعمل يتم عزل ذرّات القاذورات عن الجهاز، حتى لا تدخل الجسم فتضرّ به، وتعطي للهواء درجة حرارة، ونسبة من الرطوبة تتلاءم مع الرئتين قبل النفاذ إليها، ويقوم ذلك الجهاز بتبادل الغازات.
- أما الغذاء الذي يمثل المادة الخام للمصنع الكيميائي فإنه يختبر ما يصل إليه من ناحية الكيف والكُنْه، ومدى صلاحيتها للجسم وإفادته منها، أو ضررها عليه وخوفه من نتائجها، وذلك بواسطة حلمات التذوق في الفم، فيتم رفض الأولى وكذلك الضار منها، والسماح للثانية بأخذ طريقها، وتعطي حاسة الذوق بعد ذلك إشارات عاجلة للمخ الذي بدوره يرسل مخابرات سريعة جداً للغدد اللعابية لإفراز ما يعين هذا الطعام على العملية، وتسجيل مهماته ليجد الجو مهيئاً والاستعدادات جاهزة والأجهزة مستعدة للعمل في الفم والبلعوم والمعدة.
هذه بعض التخيلات التي مثّل لها هؤلاء المختصون بالمعامل في الرأس وحده، بل في جزء من الرأس، وهي قدرة إلهية تبرز أمام المتبصر بدقتها في العمل، وما أودع الله فيها من قدرة على التمييز، ورهافة في الإحساس، تفوق ما توصل إليه البشر في مخترعاتهم، وقدراتهم وأجهزتهم، مما يدعو للإيمان وإلى التعمق، في إدراك أن ذلك لم يكن مصادفة، وأن هذه الأجهزة لم تخلق نفسها بنفسها، بل جاءت بقدرة العزيز العليم، وهيأها فاطر السماوات والأرض، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون، علواً كبيراً، ألم يقل سبحانه في معرض الامتنان، على خلقه بما سلك في أجسامهم، من أشياء وما أبدع في حواسهم من أجهزة لأنـه القادر على كل شيء وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78) سورة المؤمنون. قال الدكتور محمد السيد طنطاوي في تفسيره: (إن من نعمة الله أخرجكم من بطون أمهاتكم، بعد أن مكثتم فيها شهوراً عديدة، تحت كلأته ورعايته، وأنتم لا تعرفون شيئاً، وركب فيكم السمع الذي تسمعون به، والبصر الذي بواسطته تبصرون، والأفئدة التي عن طريقها تعقلون، وتفهمون بقدرته النافذة، وحكمته البالغة، لعلكم بسبب هذه النعم التي أنعمها عليكم تشكرونه حق الشكر، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملون نعمه في مواضعها التي وجدت من أجلها).
وقال الجمل في تفسيره: وجملة وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ابتدائية، أو معطوفة على ما قبلها، والواو لا تقتضي ترتيباً، فلا ينافي أن هذا الجُعل، قبل الإخراج من البطون، ونكتة تأخيره -أي الجُعل- أن السمع ونحوه من آلات الإدراك، إنما يعتدّ به إذا أحسَّ الإنسان وأدرك، وذلك لا يكون إلا بعد الإفراج، وقدم السمع على البصر، لأنه طريق تلقي الوحي، أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر، وإفراده -أي السمع- باعتبار كونه مصوراً في الأصل. (التفسير الوسيط 8: 149).
وأما الإمام بن كثير فقال في تفسيره: وهذه القوى والحواس، تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً، حتى يبلغ أشدّه، وإنما جعل سبحانه هذه الحواس في الإنسان، ليتمكن بها من عبادة ربه، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة، على طاعة الله، ويشكره على ما أعطاه، كما جاء في صحيح البخاري، ضمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الذي جاء فيه: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن دعاني لأجيبنّه) الحديث (تفسير ابن كثير 3: 579).
وعلى كل فرد منا معاشر المسلمين -ذكراً وأنثى- أن نُرْهف أسماعنا وأبصارنا، لما في كتاب الله وسنة رسوله لنأخذ ونعمل، ونعرف لنشكر، والله يتفضل على الشاكرين بالمزيد، وعلى العاملين مع الصدق بالإعانة.
ووراء هاتين الآيتين من سورة سبّح الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (سورة الأعلى 2-3) أسرار عظيمة، وعجائب غريبة، يعجز المرء عن إدراكها، ولكن نقول كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (اللهم إيماناً كإيمان العجائز).