قبل أن نأتي على بعض أحكام قراقوش التي رواها الرواة، وهي لا شك أحكام غريبة وظالمة فربما أننا حكمنا عليه حكماً لا يستحقه، لكن تلك الأقاويل أصبحت مضرب مثل منذ عام 589هـ وقبلها بسنوات قليلة حتى عصرنا الحاضر.
و(قراقوش) هو أبو سعيد بن عبدالله الأسدي الملقب بهاء الدين، وقراقوش تعني بالتركية (النسر الأسود) وكان خصياً أبيض من خدم أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين، وعندما قام الخليفة الفاطمي بتولية صلاح الدين الأيوبي الوزارة جعله يتولى القصر الفاطمي لثقته فيه.
ولما استطاع صلاح الدين انتزاع السلطة والاستقلال بشؤون مصر جعله مسؤولا عن الشؤون الخاصة لقصره، وقد كسب مزيدا من الثقة لدى صلاح الدين حتى أصبح ذراعه الأيمن، المعتمد عليه في مهمات الأمور. وقد قام بما أوكل إليه خير قيام في فترات وجيزة، ولعل عامل الزمن جعله يتصرف تصرفات تدعو الناس إلى وصفه بالظلم والقسوة، ولذا، فقد وجهه صلاح الدين ببناء قلعة جبل المقطم في القاهرة وذلك لتوفير بناء حصين حماية لصلاح الدين من أعدائه، وأمر بهدم عدد من الأهرامات الصغيرة واستخدام أحجارها الضخمة في بناء السور بالقلعة، كما قام ببناء قناطر الجيزة العظيمة على النيل بالقرب من الأهرامات، لكن أمراً كهذا يحتاج إلى وقت طويل، وفي سعيه لسرعة الإنجاز قام بإجبار الناس على هدم الهرم وبناء السور، وذلك بالسخرة، حيث يقوم بتسخير الناس عنوة للقيام بهذا العمل وربما يرسل من رجاله من يداهم بيوت الناس ويجبرهم على العمل لإتمامه في الوقت الذي حدده، ولهذا فقد كتب أحد معاصريه وهو الأسعد بن مماتي ناظر الديوان في عهد صلاح الدين رسالة خطية، سماها (الفاشوش في أحكام قراقوش) حمل فيها على قراقوش، ووصفه بالغفلة والظلم، وقال فيها (إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش قد أتلفت الأمة، وضعت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين، وقد ضمنها نوادر وقصصا وأخبارا تدل على خلل أصاب تفكيره، وهناك من ينسبها إلى السيوطي، لكن ابن خلكان قد أشار إليها مما يدل على أنها ليست للسيوطي.
ومن نوادره أنه كان تاجراً غنياً بخيلا، وكان له ولد يقترض باسمه، واستمر الاقتراض حتى زاد عليه الدين ولم يمت أبوه، فاتفق مع الدائنين على أن يدفن والده حياً، وانقضوا عليه ذات يوم وغسلوه ودفنوه، ووضعوه على النعش وربطوه وحملوه، وهو يصيح ولا يغاث، ثم أدخلوه المسجد، ووافق وجود قراقوش في المسجد وصلى عليه مع المصلين، وعندما أ خذ الوالد يصيح ويستغيث سمعه قراقوش: وسأل الابن عن السبب الذي جعله يفعل ذلك بأبيه، لكن الابن قال لقراقوش هو كاذب يا مولاي، فهو ميت وهؤلاء شهود على موته، فسألهم أتشهدون بصحة ما قال: قالوا نعم نشهد، فالتفت قراقوش للميت وقال: كيف أصدقك وحدك، وأكذب ابنك ومعه هؤلاء الشهود الحاضرون، وعليكم الإسراع بدفنه حتى لا تخرج علينا الموتى ثم لا يدفن أحد بعد هذا اليوم، فحمل الرجل ودفن.
ورسالة (الفاشوش في أحكام قراقوش) تحوي قصصاً كثيرة يشوبها الكثير من الخيال. لكن يبدو أن ما ذكر له أساس من الصحة.
فإن كان الأمر كذلك، فمن الغريب أن يعتمد صلاح الدين على رجل مثل هذا في أموره الهامة دون مراعاة للرعية والرحمة بهم، وإن كان الأمر غير ذلك فقد يكون مؤلف رسالة الفاشوش قد أوردها لتشويه سمعة الوزير، لا سيما أنه ناظر الديوان، وهذا ما قد يحدث بين متنافسين على صنعة واحدة، وما قد يحدث بينهم من مماحكات وصراعات وتشويه للسمعة.
ولا شك أن قراقوش كان صارماً حازماً سريع الإنجاز، وعمل كهذا في عصر مثل تلك العصور التي يعتمد فيها على الطاقة الذاتية للإنسان قد يعتري القائم عليها تجاوز للحدود المعقولة في تعامله الإنساني، مما يؤدي إلى عدد كبير من الضحايا. وكم في المنازل من قرقوشات يصدرن الأحكام فينفذ رب البيت تحت وطأة السخرة.