نشرت جريدة الرياض الأسبوع الماضي، ونقلت عنها عدد من الصحف الخليجية والعربية، خبر بث إحدى القنوات العربية مسلسلاً تاريخياً مهماً يُنتهى من تصويره هذه الأيام، ويعرض المسلسل في حلقاته التي تستمر طوال ليالي شهر رمضان القادم تفاصيل الفتنة التي دارت بين معاوية والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. وجزماً سيعول الكاتب في سرد ما حدث على ما سبق من مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والبيعة لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه وما صار في الجمل وصفين وقضية التحكيم المشهورة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ثم انفصال الخوارج عن مشايعة علي، وكذا التفاف الشيعة - بالدلالة اللغوية - حول علي، وبقاء أنصار معاوية حوله في الشام وما إلى ذلك من أحداث غريبة ودامية!! وعلى ذمة المحرر فإن سيناريو هذا العمل الإعلامي الضخم حظي بمراجعة وموافقة مجموعة من العلماء والمفكرين في عالمنا العربي، كما نال شرف مباركة جهات شرعية حكومية خليجية ذات شأن!!
وبعيداً عن التعجل في إصدار الحُكْم حيال جودة العمل من الناحية الفنية، وكذا صحة الروايات ودقة السند التاريخي من عدمه، فإنني شخصياً أعتقد أن بث هذا المسلسل من قناة خليجية، وفي هذا الوقت بالذات، باب فتنة ونافذة شر «والفتنة أشد من القتل»؛ إذ إننا جميعاً نعرف الدور الذي لعبته هذه الأحداث في تفريق الأمة وتشتيت شملها ونشوء الفِرَق والمذاهب العقدية المختلفة التي ما زالت تتصارع حتى الآن، سواء ظاهرياً أو في الخفاء، كلامياً وفكرياً أو ميدانياً وفعلياً.
لقد قرأت كثيراً في هذه الأحداث التاريخية العصية عن الفَهْم، وقارنت بين ما هو في كتب الشيعة وما دوَّنه مؤرخو السنة وما هو في كتب المنصفين المحايدين، وكذا المستشرقون الغربيون، كما سمعت ما قاله عدد من المحققين والباحثين المختصين في هذا الفن من فنون العلوم الإنسانية، وتوصلت من كل هذا الترحال إلى أن السلامة عدم الخوض في تفاصيل هذه الأحداث التي حدثت في أفضل القرون وأزهى العصور، وشارك فيها عدد من كبار الصحابة الذين هم كالنجوم، وكلهم عدول، فـ»تلك أمة سلمت من دمائها سيوفنا فلتسلم منها ألسنتنا»، ولكون ما جرى بين معاوية من جهة والحسن والحسين من جهة أخرى ملتبساً وشائكاً يختلط فيه الحق بالباطل؛ لذا صدق على تلك الأحداث اسم الفتنة (والفتنة أشد من القتل...).
إن عرض هذه الأحداث على عامة الناس، وفي شهر فضيل، قد يثير كثيراً من الشحناء، ويُلبس على العامة الذين لا يفرقون بين الصيرورة التاريخية والتوظيف العقدي!! كما أنه يمهد لأرضية الاختلاف بدل التقارب والاتفاق الذي هو مطلب عزيز للجميع في هذا المنعطف التاريخي الصعب.
إن من الخطأ تذكير كل طرف بمواقفه التاريخية السلبية وتوظيفها بشكل قوي، وفي هذا الوقت الذي يُعَدّ من أنسب الأوقات للسقي والتأجيج حتى يتسع البون وتتقطع الجسور وتوغر الصدور لدى الجميع، فتكون الفرصة مواتية لإهلاك الحرث والنسل، ثم ما الفائدة المتوخاة من بث هذا المسلسل؟!! ولمصلحة مَنْ؟!! ولماذا في هذا الوقت بالذات؟!!
إنني أتطلع إلى تحرك العقلاء المدركين لتأثير الإعلام خاصة مثل هذه المسلسلات والأفلام في توجيه الشارع وصياغة الرأي العام، يتحركون بدافع المصلحة العامة من أجل إيقاف بث هذا المسلسل مهما كانت المبررات والمصالح الخاصة، ولعل العلماء الربانيين الذين ينظرون إلى مصلحة الأمة ووجوب جمع الكلمة وتوحيد الصف ونبذ الفُرْقة والاختلاف يكون لهم دور أساس في تبني هذا المطلب المهم والعاجل.
وإلى لقاء، والسلام.