** يتدخل الرقيب حين لا يجد مناصاً؛ فيحذف كلمة أو جملة أو سطورًا، وفي الزمن الماضي كان «الكُتّاب» يستسلمون غيرَ راضين، وفي الوقت ذاته يلتمسُون له عذرًا، ثم يُؤرشفون ما لا يجاز معتقدين أن لنشره زمنًا لم يئنْ، وربما تحايل بعضٌ فأعاد ما حُجب على المطبوعة نفسِها لإدراكه تبدلَ الظرف أو الرقيب أو ضعفَ الذاكرة «المانعة» وعدمَ اتكائها على معطًى يقيني، ولأن الرقيب - بدًا ومنتهًى- شريكٌ في الفعل الكتابي يختلف دوره مؤقتًا دون أن يكون شريكًا مؤمنًا بالعملية الرقابية التي تصادر فكرًا إنسانيًا لا حقّ لها في تعقيمه أو تحجيمه.
** كذا أذن الزمن منحًا ومنعًا، وقد روي أن كاتبًا شكر على مقالٍ وأنذر عليه في يوم واحد لاختلاف نظرتين نافذتين حوله، وفقد رقباءُ وظائفهم بسبب تأويلٍ اجتهاديٍّ لم يرقَ لمرتبة «الأجر الواحد» حين فاتهم الأجران.
** لا تدوم الأحوال؛ فقلةٌ من ارتضوا الصمت حين حان موعد الكلام، وانتصفوا - بإيمانٍ وثقةٍ - للعقل من الاغتيال؛ فالكلمة لا تموت ولو ظن واهم أنها تندثر بالتجهيل والتجاهل، والنظرية الفيزيائية العتيدة «لا شيء يفنى، كل شيء يتحول» تحيي مواتها يومًا؛ فلا خوف من وأدها يوما.
** تغيرت كل النظريات؛ فما عادت الكلمات -في الزمن الشبكي- طيّعةً هادئةً مهادنةً راضية مرضية، ولم يعد يعنيها حكم ضديّ لا خيار لها في استئنافه؛ فالبوابات مشرعةً ومشروعة، والمقال المبتور جهارًا يجد مكانه ومكانته نهارًا مع إضافة عبارة «المقال كاملًا»؛ ما يجعل حياة الكلمة مضمونة مصونة متجددة متعددة، وعوضًا عن منبر واحد تلتئم من أجلها منابر ومنائر.
** بات الجميع على اقتناعٍ بعبثية الرقابة؛ ما يفترضُ مراجعة أنظمتها وتعديلها وضمانَ حقّ الاختلاف والرد العلنيّ دون تخويفٍ أو تخوين، والمراوحة في منحنى الـ»بين بين» استظلالٌ من الهاجرة بورقة توت.
** يتسيد اليوم عالمٌ افتراضيّ يراه مدمنوه عالمهم الحقيقيّ، وبينما كان مقتصرًا على الشباب ومن في حكمهم بات في لاعبيه الشيخُ والواعظ والأكاديمي والنجمُ الإعلامي والسياسيّ بتواكبٍ منكبيّ مع أبنائهم وربما أحفادهم من النشء الجميل المتحرر من ذهنية الإقصاء، ولا فرق بين سيدهم ومسودهم وأبيضهم وأسودهم إلا بالحجة والكفاءة.
** هذا الفضاء مباحٌ لمن شاء و متاحٌ بما يُشاء؛ فلا خطوط حمراء، ولا إجبار على اسمٍ أو وسمٍ أو هُويّة، ولا رقابةَ قبليةً أو بعدية؛ فالحرية المطلقة مكفولةٌ بحكم الفضاء «السايبروني» المتعاظم.
** لا لوم على «الرقيب الأرضي»؛ فهو مساءلٌ وهو - أيضًا - ملتزمٌ بما يُملى عليه من مسؤول أعلى وهذا ممن فوقه بتراتبيةٍ إدارية تأخذ جانب الأمن الإعلامي حين كان له جانب واحدٌ ومظهرُ أمانٍ لا يُخترق، وحين كان التشويش وسيلة دفاع والإعلانُ وسيطَ دعاية والأجراءُ حملةَ الراية، لكن الزمن لم يعد الزمن ولا الناسُ هم الناس.
** الإعلام الجديد حراكٌ دائبٌ لا يعرف الاستقرار ولا يعترفُ بالقرار، وفيه من الندوب والعيوب ما فيه لكنه قدرٌ يعترف بالتحصين الذاتي الذي يبدأُ بالتعليم لا التكميم وبالوعي لا الإملاء وبقول الحقيقة مهما كانت مرة.
ibrturkia@gmail.com