ظهرت أساليب جديدة في مقاومة خريف الاستبداد ضد ربيع الثورة العربية، فبعد النجاح الذي حققته الثورتان التونسية والمصرية، واجهت الثورة الشعبية في ليبيا واليمن وسوريا إصرار السلطة الاستبدادية على الاستمرار، ولو كان الثمن سيلان دماء أبناء الوطن في الشوارع، مما أطال من أمد الأزمة السياسية، وسمح بتدخل المصالح الغربية في الوطن العربي، وإن كنت أرفع علامات العجب على ذلك الإصرار العجيب على البقاء في السلطة عبر القوة المفرطة، فالعقيد القذافي يعلن أنه سيحارب إلى يوم القيامة، وكأني بهذا الرجل يعيش في زمن القرون الوسطى، التي تأخذ شرعيتها السياسية من لمعان السيوف وبريق الدماء، ولم يدرك بعد أكثر من أربعين عاماً في السلطة أن المفاهيم السياسية تغيرت، وأصبحت تدخل في صلب المهارات الإدارية، والقدرة على تلبية مطالب الناس، لا في مهارة التسلط على رقاب الناس ثم قتلهم في الشوارع.
أجد في أساليب السلطه السورية الأكثر تمويهاً وذكاءً، فقد خلقت لها معارضة مسلحة تقتل بها الجنود الذين يرفضون قتل أبناء شعبهم، كذلك سمحت لنوع من المعارضة السياسية في دمشق أن تظهر في العلن، فقد حصل اجتماع في العاصمة السورية للمعارضة في سابقة لم تحصل من قبل في تاريخ سوريا في عصر حزب البعث العربي، وفي ظل إصرار السلطة السورية على مقاومة التغيير، قد تدخل القوى الأجنبية من خلال باب إصلاح الوضع في سوريا، وهو خيار سيضطر الثوار إلى الانحياز إليه في سبيل الخروج من الاستباحه الدموية لهم في الشوارع.
كذلك أفصحت الثورة اليمنية عن كمية التغيير الهائل الذي حدث في وعي الشعب اليمني، فقد أثبت الجيل الجديد أنه لا يؤمن بدور الخنجر اليمني في إحداث التغيير، وما حدث من عنف وقتل كان بين صفوف القوى التقليدية في اليمن، وما زالت الأجيال الجديدة تلجأ للحل السلمي المتحضر، على الرغم من رفض السلطة المتكرر تسليم كرسي الرئاسة إلى الشعب، والجدير بالذكر أن اليمن خرج من حكم الإمام في بداية الستينات، في زمن كانت الأميه والسل والجرب تحاصر الشعب اليمني في كل مكان، لكنه في فترة قياسية خرج من معاناته وتقدم لصفوف المقدمة في ترتيب الوعي الشعبي العربي.
المختلف في تطور الأحداث في ليبيا وسوريا واليمن عن مصر وتونس أن تركيبة السلطة في الدول الثلاث التي تقاوم التغيير بشراسة تختلف عن مصر وتونس، فالسيطرة في سوريا وليبيا واليمن متورطة في الحكم من خلال العائلة على الرغم من أنهم يقدمون أنظمتهم للملأ على أنهم جمهوريات ديموقراطية، فالمراكز القيادية في الجيش والاستخبارات والحرس الجمهوري بيد أبناء وأقارب وأنساب الرئيس المنتخب!، مما يحد من احتمال حيادية الجيش في الخلاف بين الشعب والسلطة، لذلك سيطول الصراع لكنه حتماً سينتهي في آخر المطاف في صالح الثورة، وذلك بسبب انقطاع شعرة معاوية الشهيرة أو الثقة بين الناس والسلطان.
كانت معظم الثورات في تاريخ العرب والمسلمين تقوم على انقطاع تلك الشعرة بين السلطة والناس، فقد استغلها العباسيون في ثورتهم ضد الأمويين، وقامت عليها معظم الانقلابات العربية، فقد كان الزعماء المتمردون يستغلون حالة الضجر التي يعيشها الناس في عهد الطاغية، ليحدث الانقلاب ويخرج طاغية جديد وهكذا..، لكن في العصر الحديث اختلف الحال وغابت الزعامة بين الصفوف الحاشدة، ولم يعد للخطب الرنانة قبول عند الشعوب، فالمطالب الإصلاحية الحقيقية أصبحت أبجدية يُجيد قراءتها معظم الناس.
في بداية القرن العشرين، خرج المثقفون العرب بالمشروع النهضوي العربي الذي يقدم الإصلاح السياسي كأهم مقدمة في حلقات التطور، لكن الاستبداد قاوم ذلك المشروع، ليخرج الزعيم الواحد الملهم الذي يحكم بكل جبروت من خلال مفردات الفكر النهضوي، فتارة كان يبطش من خلال الديموقراطية، وتارة أخرى يسحق الشعب باسم مصالح الوطن، وفي أخرى يخرج على شعبه كنصير للفقراء والمظلومين والمساكين، ويعود التاريخ من جديد في بداية القرن الواحد والعشرين ليقوم الناس عن بكرة أبيهم بالدور الحيوي في مناهضة الاستبداد في ظل مقاومة شرسة لطبائع التغيير من قبل حزب الزعيم الملهم والأوحد، ويبقى دائما للحديث بقية.....