عندما تقلب بإصبعك محرم القنوات لتبحث عن قناة ما، تتوقف في مسيرتك تلك عند عدد هائل من القنوات العربية متنوعة المشارب التي في مجملها تمثل ثقافة الشعب العربي بأطيافه المختلفة، ومذاهبه، وأفكاره المتباينة. والتباين والاختلاف إثراء إذا كان متوافقاً مع العقل ومؤدياً إلى خدمة المجتمع، أما إذا كان خلاف ذلك فلا بد أنه سيكون جذوة لإضرام النار في الهشيم، والسعي للفرقة والتناحر.
هناك قنوات تمثل سياسة الدول كل على حده، وهي مشروعة ومقبولة لتطرح أمام العالم مواقفها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، وهناك قنوات رصينة تقدم للرائي وجهة نظرها الدينية والمذهبية بطريقة لا تخدش فيها مخالفيها في الدين، أو المذهب، أو الفكر، لكن ما يحزن حقاً أن تصب قنوات جام غضبها على المخالفين لها في الرأي وأن تستضيف من جنَّد نفسه للسباب، والصراخ، ونشر الفرقة، دون أن يعي أن الأمة في حاجة ماسة إلى التوافق والتلاحم واحترام الرأي في ظل عدل ومساواة بين الناس، وأن القسوة في القول ربما تؤدي إلى الحقد والضغينة، ومن ثم التفرق، والوصول إلى ما لا يحمد عقباه، وهذا مناقض لما سارت عليه بعض مجتمعات خلت من أمتنا، ومجتمعات غير الأمة العربية والإسلامية تسير عليه في وقتنا الحاضر.
وهناك قنوات عجيبة غريبة تحمل ألواناً متباينة من ادعاء معرفة المستقبل، وهذا دجل يستغل به أصحابها بعضًا من البسطاء، فيعطونهم من الأمل الوهمي ما يسعدهم بالقول في فترة وجيزة مع أن الواقع قد يكون خلاف ذلك، ومن تلك القنوات ما نذرت نفسها لتفسير الأحلام، ولا يكاد المتصل يكمل أضغاث أحلامه المزعومة إلا وينبري ذلك المفسر بإعطاء المتصل ما يسعده، وهناك من أعاجيب الأحلام والتفاسير التي انصبت إليها في فترات محدودة جداً ما يدعوني إلى الضحك المفرط في سماع ما لا يعقل، وقد يبني صاحب أضغاث الأحلام على ذلك التفسير آمالاً عراضاً ثم يجد نفسه فيما بعد أبعد ما يكون عن ذلك التفسير المزعوم، ولنا أن نتصور الأثر الاقتصادي والنفسي والاجتماعي الذي سوف يحيق بهذا الحالم المسكين.
وهناك أيضاً من طالبي الفتيا عبر قنوات مختلفة أعاجيب وغرائب لا تمت للواقع بشيء، وهي أبعد ما تكون إلى المنطق، وقد استمعت إلى أحدهم وهو يسأل أحد المشائخ الفضلاء عن رأيه في وجوب إلزام الزوج بكلفة كفن زوجته من عدمه، وقد أصاب فضيلة الشيخ ذلك بالسؤال بالدهشة، وأجابه جواباً جميلاً بقوله فيما معناه: إن كنت لا ترغب في تكفين زوجتك فافعل، ولن تعدم زوجتك من يقوم بتكاليف كفنها، ثم أردف فضيلة الشيخ قائلاً فيما معناه، إنني لأعجب من أولئك الذين يفتشون في غرائب المفتين ثم يثيرونها مع ضعفها وعدم مطابقتها لواقع، فيظهرون الإسلام على غير حقيقته، ويضعون في يد المتربصين مادة للنيل منه.
وهناك من يسفر كل ما أصابه من شاردة وواردة إلى ثلاثي الهوس، الجن، والسحر، والعين، فيؤمن بذلك إيماناً مطلقاً ثم يبحث عمن ينقذه مما ابتلي به، فيلجأ إلى من يستغله استغلالاً مادياً أو جسديا، ومن ذلك ما قرأته في إحدى الصحف العربية الشقيقة من رجل يدعي أن لديه القدرة على الشفاء من تلك الأمراض، فيحضر بيضة ويكتب عليها آيات من القرآن الكريم، ثم يمررها على كامل جسد المراة التي يزعم أنه يعالجها، وبعد معاودتها له مرتين أو ثلاث، يخبرها أن ذلك لم يبلغ منها حد الشفاء، ولذا فلا بد من الاتصال المباشر مع الدعاء، وكان لديه عدد من الضحايا حتى افتضح أمره.
عالمنا الإسلامي والعربي شابه الكثير من العوائق والخرافات المناقضة للدين أولاً، وللعقل والمنطق، ومع هذا فنجد البعض منا ما زال يجعل عقله رهينة ممارسات وأفكار مغلوطة زاد في ترسيخها قنوات فضائية كثيرة. حمانا الله وإياكم من كل مكروه، ومتعنا بالصحة، والعقل، الذي نميز به بين الحق والباطل.