لعلماء (الأنثربولوجيا) نظرية تبنّاها دارون سماها نظرية: النشأ والارتقاء، فجهّله علماء من الغرب، في الوقت التي تبنّاها سلامة موسى وغيره وألّفوا فيها كتباً من سلامه هذا وغيره، وأُدْخلتْ في المناهج الثانوية فترة من الزمن، ونحن المسلمين لنا مصدر تشريعي.
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله خلق آدم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام في أجمل صورة، وبطول ثلاثين ذراعاً، وأن الله يدخل أهل على صورة آدم وبطوله.
فهذا فيه نفي لتلك النظرية الإلحادية، ويقول تبارك وتعالى ممتنّاً على عباده، ومذكراً لهم ما يجب عليهم إدراكه والاعتراف بالفضل لله، الذي يعطي الكثير، ولا يطلب من العبد إلا القليل، ويسبغ النّعم الكثيرة، ولا يريد من عباده إلا شكرها، واستحضار ذكره جل وعلا في كل موقف {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} (سورة الانفطار 6-8)، ويقول سبحانه في سورة التين {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. هل بعد هذه النصوص، مدخل لأولئك النّفر أن أصله قرد ثم تطور، سبحانك هذا بهتان عظيم.
إنها نعمة كبيرة يجب أن يستحضرها الإنسان في كل موقف، حيث ينظر في جسمه ليرى القوام الحسن، الذي خلقه الله عليه، والصورة الجميلة التي رفع الله بها قدره، بين الكائنات على وجه الأرض، والتركيب القويم، والاعتدال في القامة، فكان في أحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، فهي حكمة الله البالغة، التي أعلا بها قدر هذا الإنسان وميزه بالعقل ليدرك فضل الله عليه، ويعرف بالمقارنات والحواس، التمايز بين شكل وشكل، وبين طباع وطباع، وهذا القدر الذي وصل إليه لم يكن بقدرته أو إرادته، بل وهذه النعم التي يَرْفلُ فيها، لم تكن بجهده وقوته، ولكنها بتقدير العزيز العليم الذي جعل الجسم متناسقاً: فلا هو بالطويل المزعج، ولا بالقصير الذي يلصق بالأرض، فيصبح مهاناً محتقراً، ولم يجعله على صورة بعض الكائنات المختلفة في سائر الأرض، ممن يمشي على بطنه كالزواحف والسحالي، ولا ممن يمشي على أربع، كالكلاب والقطط والحمير، أو يطير بجناحيه كالغراب والرخم، أو ينغمس في القاذورات كالجراثيم والفئران، وغيرها. بل فضله خالقه على ما في هذه الأرض {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء 70)، وميزه بأمور كثيرة، أبرزها ما يظهر على شكله، من جمال الصورة، وحسن القوام، وما ينعكس على تصرفاته من رجاحة العقل، وعلو الهمة والنفس، وما تتطبع به أخلاقه من حب للخير، ورغبة في المساعدة والإحسان، وارتباط بخالقه في شكر النعم دعاء وعبادة. إلى غير هذا مما هو مخلوق من أجله في هذه الحياة، أداؤها وشكرها، هبة من الله لعباده، يُقَوّمُهَا شرع الله الذي شرع لعباده، وينظم مسيرتها الاعتراف بفضل الله على العبد {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (سورة إبراهيم 7) مما يستوجب حمد الله والاعتراف بفضل الله إن فضله كان كبيراً، فقد رفعنا معاشر البشر إلى مرتبة عالية، في الخلقة، وميّزنا بالعقل ورفعنا بالإدراك، وهي نعمة جليلة القدر، مع التحلي بحسن الخلق لنتأسى بنبينا عليه الصلاة والسلام.
إن التحليل العلمي أدرك بعد تجاربه العديدة أن الكوكب الأرضي، قد هيأه الله بما يتناسب مع الإنسان في جوّه حرارة ورطوبة، وبرودة وجفافاً، وهيأ الله حول الأرض غلافاً ينظم ذلك حتى لا تتأثر حياة الإنسان أو النباتات والحيوانات التي منها معيشته واستقامة أموره، لأن ما حول الإنسان مسخّر له فالحرارة لو زادت عن قدرة الاحتمال لتصل إلى واقعها في بعض الأجرام السماوية الأخرى لمات الإنسان واحترق النبات وهلك الحيوان، ولو نقصت لتجمّد الجميع، ومثل هذا الجفاف أو المطر، فسبحان القادر على كل شيء، والمهيئ بحكمته موازين للمعادلات المختلفة لكن تبقى الحياة صالحة على وجه الأرض لمنافع الإنسان، ومتلائمة مع قدرات جسمه الضعيف، حتى يدرك مما حوله فضل الله عليه، ولا يغتر بنفسه، وليعرف ما يجب عليه لله من حق، وما أوجد في هذه الحياة من أجله، فيشكر ذلك، ويعرض أموره المختلفة، على مصدري التشريع في عقيدة الإسلام: كلام الله وكلام رسوله فيتّبعه، ألم يقل سبحانه عن أصله ونهايته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (سورة طه 55).
وإن تحليل الماديين يجب أن يوجه بلطف إلى ما يربط العالم بخالقه جل وعلا، حتى يجد في اكتشافه دليلاً إيمانياً يحرّك قلبه إلى معرفة الدين الحق، يقول المؤلف الفرنسي أريل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»: يقع الجسم البشري في ميزان الضخامة في منتصف الطريق بين الذرة والنجم.
فبالنسبة لجرم الأشياء المختارة للمقارنة فإن جسم الإنسان قد يبدو كبيراً، أو ضئيلاً فطوله معادل لطول 200 ألف خليّة نسيجيّة، أو مليونين من الميكروبات العاديّة، أو ألفي مليون من جزئيات الزّلال، إذا وُضِعَتْ إحداها بجوار الأخرى، فالإنسان إذن يُعْتَبَرُ هائلاً إذا قورن بالإلكترون والذرة والجرثومة، ولكنّه لن يلبث أن يصبح شيئاً عندما يقارن بجبل أو بالأرض، وللدلالة على ذلك نقول: إنّ أكثر من أربعة آلاف رجل، يقف أحدهم فوق رأس الآخر، يمكن أن يوازوا ارتفاع جبل (مونت إيفرست) إن دائرة نصف النهار الأرضي، تعادل ما يقرب من طول 20 مليون من بني الإنسان، ومعنى وجودنا في الحياة لا يعتمد قطعاً على جرمنا، فطبائع الإنسان خاضعة لشكله، وما وهبه الله من قدرة تسخّر ما حوله في هذه الحياة.
فالتركيز المعنوي القوي لنشاطات الإنسان تبرز في ناحيتين: داخلية وخارجية، فإذا نظر إليه من الداخل فإنه يبدو للفاحص بأفكاره وميوله ورغباته وأفراحه وأحزانه، وإذا نظر إليه من الخارج فإنه يبدو شكل الجسم لكل البشر بقوامه وجماله، وحسن مظهره، فهو مكون من جسم وروح، فلا جمال للجسد بدون الروح، ولا قيمة للروح إذا لم تكن موجهة الجسد إلى ما يرضي الله، في النية والعمل.
فالروح التي هي سر الحياة في الجسد، يجب أن تتشبع بالعقيدة، وتسترشد بمنهج الله، ليستقيم الجسد على طاعة الله، ويؤدي حق الله في العبادة، لأن كل جزء منه عليه دور في الأداء وواجب في العمل، كما جاء في الحديث الصحيح «بأن على كل سلامى من آدم عليها صدقة في كل يوم» الحديث.
إن العلم يجب أن يقود الإنسان إلى الإيمان، وإن الأسرار التي أودعها الله في الإنسان والطباع والغرائب لمن أوجب الأشياء وألزمها، في الاستئناس، بطريق الهدى، واستحضار عظمة الخالق سبحانه، فالعلم بدقائق ما في النفس ألصق بالعقل، وأقرب إلى الاستيعاب، ودور العلماء أن يتلمّسوا في المداخل العلمية، ما يفتح مغاليق الأذهان، ليخاطبوهم بما هو محسوس في أذهانهم، لعل ذلك يجذبهم لحظيرة الإسلام، ويفتح قلوبهم على شرائعه، التي جاءت في صالح البشر، في أنفسهم ومع أسرهم وبيئاتهم، لأنها من عند الله.
قال الإمام أحمد حدّثنا أبو المغيرة مرفوعاً، أنّ رسول الله بصق يوماً في يده، فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنّى تعجزنى وقد خلقك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التّراقي قلت: أتصدّق وأنّى أوان الصّدقة؟».
وفي قوله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم، ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة بقوله: ما وُلد لك؟ قال يا رسول الله ما عسى أن يولد لي غلام أو جارية؟ قال النبي عندها «مهْ لا تقولنّ هكذا، إن النّطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم. أما قرأت هذه الآية، في كتاب الله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} ( سورة الانفطار 8) قال: شكلك ويعضد هذا الحديث عن أبي هريرة الوارد في الصحيحين،عن الرجل الذي ولدت زوجته غلاماً أسود، فسبحان الحي الخلاق العليم القادر على كل شيء، وبتقدير العزيز الرحيم، يوجد نماذج كثيرة بمثل ذلك للعبرة والاتعاظ في كل زمان.
يقول ابن كثير في تفسيره، عند مروره بالآيتين الكريمتين السابقتين {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (سورة الانفطار 7-8)، أي جعلك سوياً، مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال، فكيف هذا الإنسان المخلوق من ماء مهين، ليجاهر بالمعاصي ويتعالى على خالقه.