المدارسة المعمقة لمسائل الحضارة تقودنا - فيما أحسب - إلى أحد قوانين التحضر المحورية، الذي يمكن تلخيصه بالقول: «إن أي أمة تعجز عن بناء قدر كافٍ من الاستعلاء اللغوي فإنها ستكون مضطرة لأن تتنازل عن قدر من هُويتها مساوٍ لحجم التفريط في استعلائها اللغوي الواجب، واستمراء ذلك مُوجب لاندثار لغتها وتشوُّه ثقافتها».
كم نحن ضعفاء في تحقيق الاستعلاء اللغوي اللائق بلغةٍ حضارتُها موصوفة - كما في تعبير منذر عياشي - بأنها (حضارة اللسان). نعم، نحن متلبسون بضعف شديد في الاستعلاء اللغوي في وقت يتهدد فيه اللغة العربية أخطار حقيقية وليست متوهمة، وقد سقت أدلة وشواهد متنوعة تعضد هذه النتيجة، التي أحسب أنها تقف قبالة وجوهنا صباح مساء، في مظاهر وأشكال وأساليب لا تخطئها العين ولا الأذن. وقبل دخولي في الموضوع الرئيس في هذه المقالة أود توضيح مسائل رأيتُ أنها لم تتضح كما ينبغي، أو أنها جديرة بإيضاح أكبر. حجم الردود الكبير والمتنوع الذي وصلني من أقطار عربية عدة ينبئ عن وجود قناعة جيدة بأن ثمة خطراً كبيراً يحيق بلغتنا العربية، وقد تبيّن لي وجود مشاريع وأفكار عديدة لديهم، وهي بحاجة إلى من يدعمها، مالياً ومؤسسياً وتنظيمياً ومعنوياً، وقد شرع البعض بخطوات عملية مشكورة لمناصرة العربية ودعمها في سياقات عدة، شملت فضاء التواصل الاجتماعي في الإنترنت. وكل ما سبق كان متوقعاً بالفعل، غير أننا ننتظر الكثير والكثير. وفي اتجاه آخر وصلتني ردود من بعض الأصدقاء وهي تحيل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مقولة العلامة ابن خلدون حول ميل المغلوب إلى تقليد الغالب، في سياق يُفسِّر ويبرر تراجع اللغة العربية أمام اللغات الأخرى القوية، من جراء العامل الحضاري الذي يفرض لغته وثقافته، شئنا أم أبينا. المنطق الذي يستخدمه هؤلاء الأصدقاء يتكئ على فكرة صحيحة - أعني الفكرة الخلدونية -، غير أنها شديدة الاختزال، وقد تجاوزها كثيراً العلم الحديث في اللسانيات في جوانب عدة، أشرت إلى بعض جوانبها في المقالات السابقة. كما أن الفكرة الخلدونية لا تقرر الاستسلام اللغوي بحكم الغلبة الحضارية للآخر. بل إننا نجد ابن خلدون نفسه في سياقات عديدة قد أشاد بجهود حماية اللغة العربية ومن ذلك قوله في مقدمته: «.. وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من كلام العرب وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك، وربما بقيت اللغة المضرية بمصر والشام والأندلس بالمغرب لبقاء الدين طلباً لها، فانحفظت ببعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبقَ له أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تُكتب باللسان الأعجمي، وكذا تدريسه في المجالس» (بيروت، 1986، ص240).
أقول هذا الأمر لأنني وجدت في طروحات كثيرين ممن يتكئون على تلك الفكرة الخلدونية ميلاً شديداً إلى نوع من (القبول بالواقع اللغوي المرير)، الذي جاء نتيجة لعامل أكبر منه وهو تخلفنا الحضاري. فهم لا يفسرون فقط وإنما يبررون الراهن المعيش، ولا يستنكرونه، أو لنقل لا يضيقون به ذرعاً، ولا يحيلون ذلك إلى وقود وتحدٍّ، وكأنهم يقولون لنا: «على الأمة العربية أن يشتد عودها حضارياً قبل أن تفكر في حماية لغتها». إنني على يقين بأن نواياهم صادقة، وبأنهم يحملون حباً جماً للضاد، ولكنهم لا يرون - كما يتراءى لي - فائدةً تًذكر من الجهود التي تُبذل لتقوية (المناعة اللغوية) للأمتين العربية والإسلامية. وهذا أمر غريب جداً؛ إذ لا يسنده تاريخ ولا منطق ولا دراسات علمية. بل إن التاريخ والمنطق والنتائج العلمية التطبيقية تفيد بأن (النضال اللغوي) لبعض العلماء والمفكرين والساسة قد أفلح في حماية اللغة وصونها وتطورها، وثمة تجارب عديدة تؤكد ذلك، ومنها ما حدث في روسيا وكوريا والفيتنام والصين وكرواتيا، بل لقد استطاعت القومية اليهودية إعادة لغتهم إلى الحياة، وقد أشرفت على الاندثار كما هو معلوم. وإني أذهب إلى ما هو أبعد من هذا، لأقول بأنه لولا بعض الجهود المخلصة في بعض الأقطار العربية - التي تعرضت للاحتلال الأجنبي على وجه التحديد - لحماية اللغة العربية وصونها، ومن ذلك فرضها في التعليم والفضاء الثقافي العام والتأكيد على أنها اللغة الرسمية التي يجب ألا تزاحَم من قِبل اللغات الأجنبية؛ أقول لولا ذلك النضال اللغوي لما تسنى للكثيرين منا ومنهم التواصل بلغة الضاد، ومن أبرزها تجارب بعض الدول المغاربية، والحديث في هذا يطول وقد لا يخفى على الكثيرين منا.
ولذلك فإنني أرجو أن نتجاوز الفكرة الخلدونية المختزلة، وألا تكون سبباً لتخديرنا عن حماية لغتنا العظيمة من الأخطار التي تحيط بها من كل حدب وصوب؛ إذ يجب أن نتعاضد في تقوية (الغيرة اللغوية) لدى مختلف الشرائح الاجتماعية، وخصوصاً الأطفال والشباب، وأن نعيد الهيبة والرفعة للضاد، وأن نزيل ما يخدشها نظرياً وتطبيقياً؛ لنتوفر من ثم على قدر عالٍ من الاستعلاء اللغوي، الذي لا نتقصد منه احتقار اللغات الأخرى أو التقليل من شأنها، بل غاية ما نروم منه هو التأكيد على تفضيل العربية لنا، والأحقية المطلقة للغتنا القومية في أن نفكر بها وأن نتواصل من خلالها، ولنقل: لنعيش بها ولنموت أيضاً بها، فلا إله إلا الله، أجمل مقطوعة درجت على اللسان العربي وأصدقها كذلك. وهذا يعني أنه لا يجوز البتة أن تُزاحم اللغة العربية من قِبل أي لغة أجنبية، لأي سبب كان، مع تقريرنا لأهمية إتقان اللغات الأجنبية، غير أن استخدامها يكون وفق الاحتياج المؤكد فقط.
وفي سياق ما تقدم أشير إلى أنه قد تم مؤخراً اتخاذ قرار بتدريس اللغة الإنجليزية لطلاب الصف الرابع في المرحلة الابتدائية في المملكة، وهذا أمر جيد ومفيد في نظر الكثيرين، خاصة أن تعلم اللغة الإنجليزية في تلك المرحلة المبكرة يُفترض أن ينعكس إيجاباً على إتقانهم هذه اللغة التي تفرض نفسها بحكم الغلبة الحضارية. وأنا على علم بالجدل الدائر حول درجة قبول تدريس الصغار للغات أجنبية في مرحلة مبكرة، ولكن الأكثرية - على ما يبدو - مع هذا التوجه التعليمي، وقد صدر القرار تبعاً لذلك. إلا أنني أرى ضرورة (التريث في تطبيقه) وإرجائه لبضع سنوات؛ في ظل تدني الاستعلاء اللغوي في مشهدنا الحاضر، الذي أفضى إلى وضع بئيس للغة العربية في حياتنا العامة والخاصة، ومنه ضعف الصغار والشباب باللغة العربية واستخدامهم المتزايد للكلمات الأجنبية دونما حاجة، واستهانة فئات كثيرة بهذه اللغة وتهميشها بشكل متنامٍ، ولاسيما في ميادين التجارة والأعمال والفن لصالح العامية واللغة الأجنبية. ثم لا ننسى أننا ابتعثنا ما يقارب 150 ألفاً يدرسون الإنجليزية، فضلاً عن امتلاء المقاعد في معاهد تدريس اللغة الإنجليزية في المملكة، وقد قصدت من الإشارة إلى ذلك أن ثمة جهوداً كبيرة جداً في سبيل تعلم الإنجليزية وإتقانها في الفضاءات العملية، وهذا أمر إيجابي بلا شك وفق شروط محددة وبحسب الحاجة وبما لا يزاحم اللغة العربية، ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك، حيث إننا نشهد استخدام الإنجليزية في السياقات الحياتية بشكل يخرج عن الأطر المقبولة. وقد أغفلنا تماماً شروط استخدام الكلمات المعربة والدخيلة، مما جعلنا نعيش حركة تصدير للأعجمية وإقصاء للعربية في سياقات كثيرة.
نعم، نحن نحتاج قبل تطبيق قرار تدريس الإنجليزية للصغار إلى حزم أكبر في تطبيق التشريعات ذات العلاقة باستخدام اللغة العربية في الحياة المهنية والحياة العامة على حد سواء، كما أننا بحاجة ماسة إلى دراسة وتحليل وتشخيص ما يمكننا تسميته بـ(الممارسات اللغوية الجائرة)، وبخاصة في مجالي التجارة والإنترنت، على أن تُلحق بحزمة جديدة من التشريعات القوية، والإجراءات الملزمة والاختيارية أيضاً، مع تصميم باقة من المحفزات والمكافآت، إضافة إلى إعداد برامج توعوية ثقافية وإعلامية متنوعة تعيد للغة العربية هيبتها ومكانتها، وتعمل على بناء (الغيرة اللغوية) لدى الكافة. نحن دولة عربية محورية، وهي قطب كبير دينياً ولغوياً؛ مما يعظّم المسؤولية الملقاة على عواتقنا، وللتاريخ أقول بأن صدور قرار التريث بتدريس الإنجليزية للصغار بغية تدعيم اللغة العربية وتنمية الاستعلاء اللغوي لدى الصغار والشباب سيكون له وقع عربي وإسلامي كبير، وسيكون القرار بحد ذاته مُعلياً لشأن العربية، فضلاً عن حزمة الإجراءات والبرامج التي ستصدر تبعاً لهذا القرار.
دعونا نستعيد رونق الضاد في مدارسنا وبيوتنا ومجلاتنا وشوارعنا ومتاجرنا ومواقعنا في الإنترنت.. ارحموا لغة قوم ذلت.. ورضي الله عن كل الذين يؤمنون بلغتهم ويدعمونها ويدافعون عنها.. ورضي عن كل من يبني الاستعلاء اللغوي الواجب تجاه لغة كاملة، ومدهشة بحق.
beraidi2@yahoo.com