|
إعداد: محمد المنيف:
سعدت الساحة التشكيلية بما تحقق من نجاح للجناح السعودي الذي افتتح قبل أيام في بينالي البندقية العالمي الشهرة والمهم تاريخيا في مجال الفنون الذي قدم فيه العمل المشترك (الفلك الأسود) للمبدعتين الروائية رجاء عالم وشقيقتها التشكيلية شادية عالم، هذه السعادة والفخر واكبهما أيضا اعتزازا بمواقف الداعمين لهذا النجاح، إن كانوا أفراداً أو مؤسسات، ممن نعلم مواقفهم ودعمهم من مسئولين لهم مقامهم وقدرهم الذي تحقق به هذا الحضور وكنا نأمل في منحنا صلاحية التعريف بهم لولا عدم رغبتهم في ذلك واعتبار ما قاموا به موقفا وواجبا لأبناء الوطن المبدعين وتتويجا لجهودهم ممثلين في (رجاء وشادية عالم) اللتان أثبتتا للعالم حجم المساحة المتاحة للإبداع السعودي من حرية في التعامل مع الفكر والفكرة والقدرة على تنفيذ العمل بمستوى يجعل السابقين في مثل هذه الإنجازات الوقوف إعزازاً وتقديراً لهما، لقد كان في حضورهما ومشاركتهما المشرفة والمستخلصة من ثقافة أصيلة ذات انتماء للقيم فرصة عظيمة لإثبات أن الإسلام دين حضارة وإنسانية ودين الإعجاز والإنجاز والسلام بثقافة خاصة ترتقي بالفرد وتبعث فيه مشاعر المحبة والإخاء لكل من على الأرض، ولهذا أصبحت الثقافة بكل فروعها ومنها الفنون التشكيلية عنوانا وواجهة ناصعة البياض لواقع مشرق ومستقبل حافل بالعطاءات والإبداعات.
مؤسسات رفعت
شأن الفن السعودي
لا يمكن لأي نشاط أو فعاليات أن يحالفها النجاح إن لم يكن وراءها دعما (معنويا وماديا) والحقيقة أن الفن التشكيلي بما يحظى به من اهتمام يوصف بالفن المدلل من الجانبين (المعنوي) من تشريف لأعلى مستوى من رجال الوطن من أمراء ووزراء ووكلاء وزارات ومن رجال أعمال وحضور مباشر لافتتاح المعارض أو الفعاليات أو بالمساهمة بالدعم المادي ورعاية الفعاليات للمؤسسات أو الأفراد، وإذا عدنا إلى الحدث الأقرب أو الأحدث وهو مشاركة المبدعتين شادية ورجاء عالم في بينالي البندقية لوجدنا ذلك الدعم قد أخذ دوره حيث تمت المشاركة بتجمع داعم لمؤسسات رسمية تمثلها وزارة الثقافة والإعلام، ومركز الملك عبد العزيز لثقافة العالم، كما يمثل القطاع الخاص شركة أرامكو، الهيئة العامة للاستثمار، المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق.
هذا الموقف الداعم والراعي كان له دوره في رفعة شأن الفن التشكيلي وإيصاله إلى العالمية إذا علمنا أن بينالي البندقية لا يتعامل مع أفراد بقدر ما يتواصل مع مؤسسات رسمية.
حرية نابعة من
قيم ومبادئ أصيلة
لقد كان لمساحة حرية التعبير المتاحة حاليا للإبداع بمختلف فروعه في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين ومتابعة معالي وزير الثقافة والإعلام المؤطرة بقيم ومبادئ أصيلة أسست وبنت خصوصية وهوية أدبنا وفنوننا المحلية دون تأثير على كيفية التفاعل مع الجديد فيها وفي حداثة سبل التعبير التي تجاوزت المدارس القديمة إلى ما هو أبعد نحو الفكرة وتفعيل المختزل البصري وتطبيقها في الواقع بأنماط وسائط تتيح للفنان التحرك في فضاء الفكرة وسبل التنفيذ متخلصا من قيود القيم النقدية التي كانت تحبس الفكرة ضمن شروط وتوصيات وضوابط لا يستطيع الفنان الخروج منها، هذا التحرك وتلك المكاسب المفتوحة السبل أصبحت المنطلق الأول لكل المبدعين في هذه المرحلة من مراحل بناء حضارة عصرية تنافس الآخر ولا تتبعه، ومن بين المبدعين التشكيليين المبدعتين رجاء وشادية اللتين أكدتا خصوصية التعبير التي برزت في عملهما في هذا البينالي.
بين اللون الأسود
وفلسفة الفكرة
«الفلك الأسود»، اسم يأخذنا إلى إحساس غريب يشوبه الخوف لاعتقادنا أن السواد يعني التشاؤم أو الظلام وما يحيط به، إلا أن ما جاء ضمن هذه التسمية من خلال العمل الفني للمبدعتين رجاء وشادية الذي أبهر النقاد في البندقية أظهر عكس ذلك تماما وأعادنا إلى أن نتذكر أن اللون الأسود سيد الألوان وأن في لون الكعبة والحجر الأسود مصدر إلهام لفكرة العمل كما ألمحت الفنانة شادية أن زيارتها وشقيقتها رجاء لموقع البينالي للتعرف على أجوائه، كان بمثابة الومضة الأولى خصوصا أن الزيارة تعني تقديم عرض في تلك المساحة المفتوحة التي تشعرك بالأهمية والرهبة فكما أن للبندقية أهميتها بين الشرق والغرب فإن لمكة وللكعبة فيها أهمية تنتشر على مساحة الكون.
وقبل أن نتوقف لنتعرف على أبعاد ذلك العمل نشير إلى أنه كان هناك تحرك يسبق العرض أو الوصول إلى الفكرة التي تناسب العرض في هذا المحفل كما تحدث عنها لـ(الجزيرة) الدكتور عبد العزيز السبيل في لقاء هاتفي سابق أشار فيه إلى أنه تم اختيار ودعوة خمسة فنانين سعوديين قضوا ثلاثة أيام في البندقية، اطلعوا على القاعة المخصصة للعرض السعودي قام بعدها كل منهم بإعداد مشروع يناب ويحقق الهدف من المشاركة ويتطابق مع مفهوم بينالي البندقية الرابع والخمسون الذي يحمل عنوان التنوير بين الأمم والحضارات، هذا الحضور للخمس فنانين تبعه تقديم كل منهم مشروع اختار منها القيمين على المشاركة هذا العمل الثنائي التنفيذ من قبل الأختين رجاء وشادية عالم اللتان جمعتا الفكرة فيه بين الرؤية الروائية والأخرى التشكيلية مؤكدين بها تشابه أبناء الرحم الواحد بشريا وثقافيا، هذا العمل أصبح الممثل تشكيليا وثقافيا للمملكة في بينالي البندقية.
تأخر الطائرة..
فجر الإلهام وصنع الفكرة
تقول التشكيلية شادية إن فكرة العمل بدأت لحظات انتظار رحلتها وأختها رجاء عائدتين إلى المملكة حيث منحهم ذلك الانتظار حالة من الاستغراق في البحث عن إلهام يوصلهما لابتكار عمل بحجم المناسبة والمنافسة وكان لتاريخ ذلك اليوم الذي وافق وقفة الحجيج بعرفات، في وقت هما فيه في البندقية بحثا عن إلهام، من هنا تراءت الفكرة من خلال القواسم المشتركة بين المدينتين مع اختلاف الأهداف أو الرغبات، فكما للبندقية مواسم زحام نتيجة لقدوم السياح إليها من أنحاء العالم فإن لمكة المكرمة زحام المسلمين في أيام الحج المشهودة، من هنا بدأت الصورة تظهر لتجتمع فيها أهمية موقع مكة والبندقية في قلوب عشاقها فكانت فكرة الفلك الأسود،
الذي جمع فيه تمازج الماضي بعبقه وقيم تراثه وأصالته بالحاضر بحداثة تستقي فكرها من ذلك الماضي، فكان حضور مكة في العمل باللون الأسود والمكعب الأسود الذي يحيط به كريات من الكروم تلامس بعضها البعض بتشكيل كالفسيفساء المصنوعة من الحجارة التي تتشكل منها الكثير من اللوحات الجدارية في البندقية كما تمثل في مجملها إيحاء حجارة مزدلفة أو استدارة المسلمين حول الكعبة بتراص في الأجساد يدل على التلاحم مهما اختلفت الأسماء واللغات تتشكل في نهايتها دوائر تبدأ من محيط الكعبة (المركز) وتتسع إلى ما لا نهاية على مستوى الكون والمجرات والكواكب التي تدور بنفس اتجاه الطواف على البيت العتيق.
الباب الأسود مفتاح الفكرة
(الباب الأسود) أو عنوان العمل يأتي طبقا لعنوان حكاية جدتيهما كما تحكيها شادية ورجاء حكاية الملك الذي تزوج فتاة فقيرة، أخذها الملك ليلة عرسهما لقصره وحينما بلغ بها بهو يحيط به مئات الأبواب، قال لها: «لك أن تدخلي مع كل هذه الأبواب، إلا هذا الباب الأسود»، هذه الحكاية التي غرست فينا مبكراً الخوف من المجهول، وربما تحفيزنا لمعرفة العوالم التي ابتلعت تلك الملكة المغامِرة بعد ولوجها ذلك الباب.
إصدار يليق بالمشاركة
أصدرت وزارة الثقافة والإعلام كتيبا اختير له اللون الأسود من الغلاف للغلاف ما عدا بعض من الصور وكتبت حروفه باللون الأبيض تضمن لقاء مع رجاء وشادية عالم أجراه (هانز اولاريخ اوبرست) المدير المساعد لقاعة عرض السيربنتين، لندن، وقراءة للناقد الشاعر سعيد السريحجي وقراءة لمنى خزندار قيمة ومديرة معهد العالم العربي بباريس فجاء معبرا عن الفكرة لمن لم يرَ العمل تصدر الكتاب كلمة للدكتور عبد العزيز السبيل نقتطف منها ما يلي (الفن أثر خالد، ورسالة سامية، يمكنها أن تبني جسورا من الود والمحبة، وقناطر من الفهم والاستيعاب، من أجل مجتمع إنساني إيجابي، متعارف، متآلف، متكاتف.
ومن أجل تحقيق هذه الرؤية، تأتي مشاركة المملكة العربية السعودية في بينالي البندقية، عبر عمل يعكس رؤية الشعب السعودي، الواثق من قيمه، المعتز بأصالته، الساعي إلى التواصل مع الآخر، عبر اللون، والكلمة، والصوت، والتكامل الفني، المتمثل في عناصر الإبداع، وهو الرسالة الأسمى للتواصل بين الشعوب.
تختار الفنانتان شادية ورجاء عالم مدينتهما مكة المكرمة، البلدة التي نشأت في واد غير ذي زرع، ثم غدت مركزا للإشعاع، لتتعانق مع البندقية ذات البعد الانفتاحي في تلاق بين الشرق والغرب، يمثله رحالتان عربي (ابن بطوطه)، وغربي (ماركو بولو) بوصفهما من رموز التواصل بين الثقافات.
كل ذلك يجسده العمل الفني (الفلك الأسود)، الذي يمثل واحدة من الرسائل الثقافية للمملكة العربية السعودية.
لجنة الإشراف والمتابعة
لا شك أن مثل هذا الإنجاز من الأهمية ما يوجب تشكيل لجنة إشرافية على مستوى من المعرفة بالفنون والثقافة وقيمة مثل هذه المناسبات المنافسة على مستوى العالم ولهذا تم تشكيل لجنة للإشراف على المشاركة من الدكتور عبد العزيز السبيل رئيس اللجنة، منى خزندار (قيم)، روبن ستارت (قيم)، منصور الفايز من وزارة الثقافة والإعلام، سارة الفاعور من الهيئة العامة للاستثمار، فؤاد الذرمان من مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي، ياسر الغسلان من المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، عادل المنديل مؤسسة كندة.
إعلام عالمي وغياب محلي
من المؤسف أن مثل هذه المشاركة لم تحظَ بإطلالة من الإعلام المحلي هي الأهم في نظرنا بما يتوازى مع أهمية ما حظيت به من اهتمام من الإعلام العالمي إذ لم يكن لإعلامنا حضور ينقل الحدث ويكشف الواقع الحضاري والثقافي لهذا الفن ولهذا الإنجاز الذي لا يقل عن أي إنجاز رياضي أو علمي فكل منها مصدره الإنسان السعودي أيا كان تخصصه، لقد صدمنا كتشكيليين في مثل هذا التغييب أو التجاهل من وزارة الثقافة والإعلام التي كان من المفترض منها توجيه دعوات لمختلف الصحف السعودية للتغطية والتفاعل مع هذا الحضور العالمي، فالإنجاز منا ولنا وما يقال في الخارج عنه لن يكون بديلا أو أهم من معرفة أبناء الوطن به.
monif@hotmail.com