قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم لهيومَ كتاباً نُقل إلى اللغة العربية غيرَ كتابه (محاورات الدين الطبيعي) بتعريب الدكتور محمد فتحي الشِّنيطي؛ فواحرباه وواحرَّاه من المفكِّرين السعوديِّين ذوي المعرفة باللغات الخواجيَّة كيف لم ينشَطوا للترجمة أُسوةً بزملائهم في البلاد العربية، وقد نشط إخوانهم التراثيُّون في نشر كلِّ نفيسٍ وفضوليٍّ من المخطوطات بتحقيقٍ جيِّد وبنشرٍ وتحقيقٍ رديئ حتى مللنا من التراكم، ويزيد ألمي إذا سنحتْ مناسبةٌ فعرضتُ قوائمَ لامعةً ثريَّةً من الكتابات عن هيوم باللُّغة الأجنبيَّة هي المصادر الواحدة للدكتور محمد فتحي الشنيطي في كتابه عن هيوم، ومع جلالته وجلال أمثاله فإنَّ دراساتهم الثريَّة المُتْخَمَة احتواء لا محاكمة؛ فإن حاكموا فمن خلال فلسفةٍ أخرى؛ وذلك احتواءٌ آخر؛ وإنما المحاكمة بتحرير البرهان المؤهَّل سنوات بالتعلُّم والمشاهدة، وموهبة العقل أو تدريبه وإحاطته بملكات العقل، ووظائفه في التصوُّر وتمييز الهويَّات وتمييز العلاقات والفوارق بينها، والإيمان بشيئ أو أشياء في المحسوس لا تزال مغيَّبة عنا، والتفريق بين الأفكار التي هي عملٌ عقليٌّ رياضيٌّ لبناء الأحكام وبين التأليف الخيالي - وهو عملٌ عقليٌّ - الذي يخترع وجوداً لشيئ كلِّيٍّ، ولكنَّ أجزاءه واقعيَّةٌ مُخْتَرعة.. ولو نشط أبناء بلدي في ترجمة الأهمِّ لكانوا أقْدَرَ على المحاكمة بما لديهم مِن ثوابتَ يقينيَّةٍ غطشتها الحسبانية في العالَمين الغربيَّيْن مع أنهم عبقريُّون أُمَنَاء في تحصيل العلم المادِّيِّ صُنعاً واختراعاً، ولا مجال للوسواس الخنَّاس عليهم في ذلك ببثِّ ما أَلِفُوه من حسبانيَّة؛ فواعُمراه يا ليتني حذقتُ لغةً خواجيَّة واحدةً مع لغتي الأم، وقد حاولتُ ذلك، ولكنَّ نُطقي كان أُضحوكةً في البلدان التي سافرتُ إليها، فدبَّ إليَّ من ذلك اليأس، وكذلك من المثل العامي الساخر: ((يوم شابْ وَدُّوه الكتَّاب))؛ ولمَّا حرمني الله من لغةٍ خواجيَّة دفعني ذلك إلى الاستكثار من الدراسات المُعَرَّبة عن هيوم؛ فكان فَهْمُ فلسفته أَيْسَرَ عليَّ من فَهْمِ بعض مَن يعرفون لغةً خواجيَّة، وكان أستاذي محمد خير البقاعي وغيره وبعض وَلَدِي يساعدونني في معرفة أصل الاشتقاق لبعض المصطلحات.. ولن يحصل الفهمُ والتصوُّر الذي لا يَظْلِمُ إلا بمقارناتٍ مُضْنية، وخيرُ من فصَّل مذهبَ هيوم الكتبُ المؤلَّفة عن نظريَّة المعرفة، وهكذا كتب المصطلحاتوما أكْثَرَها)؛ لأنها استوعَبتْ مُفرداتِه، وأجلُّها وأوعبُها موسوعةُ الدكتور عبدالرحمن بدوي، والموسوعة الفلسفيَّة المُخْتَصَرَة.. وجرى عرضٌ واسعٌ في كتب التراجم، وفي كتب التأريخِ للفكر الفلسفي، وكتب الدراسات الفلسفيَّة العامة.. ولا شيئ يُحقِّق الفهم وصحَّة التصوُّر مثل الدراسات المُقارِنة بعد معرفة مسار الفكر الفلسفيِّ لكلِّ مذهب.. ولقد ألَّف هيوم - قبل سنِّ النضج - كتابه (بحث في الطبيعة الإنسانيَّة) وعمره ثلاثةٌ وعشرون عاماً، وعَدُّوه من أهمِّ كتبه.
قال أبو عبدالرحمن: عادةُ التأليفِ في مثل هذا العمر سُرْعةُ الاحتواء، وثراءُ التأمُّل الفكريِّ المُرْسَل، والاعتداء على الحقائق اغتراراً بِصَلَف الشباب، وقد جرَّبتُ ذلك؛ فهذا الكتاب الشبابي أهمُّ كتبه من جهة الشذوذ عن المألوف، وكانت شهرة الكتاب في وقتٍ متأخِّر؛ لأنه لما نشره حاذفاً منه الفصل الخاص بالدين لُوقي ببرودة، وعلى هذه الظاهرة المُفْلسة وَإلَى نَشْرَ بقيَّةِ فصولِ كتابه، وفي عام 1741م (وعمره ثلاثون عاماً) نشر مقالاتٍ صحفيةً له بعنوان (مقالات أخلاقيَّة وسياسيَّة)، ولقي نجاحاً في أُمَّةٍ أَخَذَتْ منها الحسبانيات مأخَذها في السلوك والمعتقد وإن كان العلم المادِّيُّ التجريبيُّ عبقرياً يزحف إلى ما نراه اليوم من هيمنته على حياة الأمم على وجه المعمورة، وفي عام 1746م - وعمره خمسة وثلاثون عاماً - بَلْوَرَ مذهبَه الحسباني في نظريَّة المعرفة بكتابه (الفحص عن العقل الإنساني)، ثم هذَّبه وأصدره بعنوان (بحث في الطبيعة الإنسانيَّة).. وقد أراد بذلك الفحصِ تحليلَ أدوات المعرفة كالعقل، والمنهجُ نفسُه ضروريٌّ لا مجرَّد رائع إذا حصل الصِّدقُ مع النفس بلا تضليل، وإذا اقتصر الفحص على ما يملكه العلم البشري من يقينٍ أو رجحانٍ عن بعض خفايا النفس ذات المعارف الغيبية، ولا أظهر من الحكم بغيبية الروح، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى ذاكراً بعضَ بيِّناته: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات، وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء، ثم أعاد نشره مُهذَّباً مُضافاً إليه (الفحص عن مبادئ الأخلاق) عام 1751م (وعمره أربعون عاماً؛ وذلك عمر الأشُدِّ)، ولكنه مشدودٌ بحسبانيَّته وإلحاده اللَّذَيْن لا ينظر إلا من خلالهما؛ فحصل بهذا الكتاب ذيوع شهرته، ويعلِّل أصحابُ الموسوعة الفلسفيَّة المختصَرَة ذيوعَ شهرته بأنه كان زنديقاً، وهذا هو الحقُّ، لأنَّني لم أَرَ في سياق فلسفته المعياريَّة شواهدَ علميَّة، ولا رصداً لأحوالِ وسلوكِ العقل في تحصيل المعرفة.. ولا أركن إلى الميتافيزيقيَّات بمعناها الرديئ عن تشريح العقل على أنَّه عُضْوٌ يُرى ويُلْمَس، بل يكفي ما نشعر به يقيناً من مَلَكَاتِه كالتَّصَوُّرِ والتَّذَكُّرِ والحكمِ والحافظةِ والتمييز.. إلخ.. ونحن نعلمُ القلبَ معاينةً بالتشريح، ولكننا لا نعرفُ كيف تحصل له المشاعر إلا بالوجدان الذي نجده في أنفسنا من تلالمشاعر، وما يظهر من آثارها كالفرح والضيق، بل تظهر على سحناتنا كحمرة الوجل وصفرة الخجل وانتفاخ الأوداج وارتعاش اليد من الغضب.. وقد ظلَّ هيوم مدَّةً من الزمن يُخفي إلحادَه عن غير خاصَّتِه، ويتأوَّل ما أظهره في كتبه، ولا تهمني بقيَّة كتبه إلا رسالته في المعجزة التي قرأها عباس محمود العقاد -رحمه الله تعالى- بلغتها الإنكليزية؛ فاغترَّ بما فيها من سفسطة.. ولما أراد هيوم فَحْصَ العقل بسلوكٍ حُرٍّ محضٍ لا عن تحقيقٍ: وقع في تحجيم المعرفة في الحسِّ المركَّب (التجربة)؛ ولعلَّ الدافع إصراره على الإلحاد؛ ليفصل المعرفة عن (الواقع المُغيَّب)؛ فبنى دراساته عن الطبيعة الإنسانيَّة على هذا الرأي المُسبق.. وإلى هذا القدر أناقش فحصه وتحليله للمعرفة؛ فأوَّلُ خرزة في سِلْك عِقْده الحسباني الزَّعمُ بأنَّ إدراكات العقل إنما هي انطباعاتٌ من الحسِّ؛ وبهذا تكون الأفكار العقليَّة صورةً للانطباعات لا غير، بل هي صورةٌ باهتة؛ ولهذا فالانطباعات [أي بدون الأفكار] أقوى وأشدُّ حيويَّة، وأمَّا استخدام الذاكرة والخيال فهو لمجرَّد ترتيب أفكارنا.. وهو يُسَمِّي الأفكار الصورَ الذهنيَّة، والانطباعات إحساساتٍ ومشاعرَ وانفعالات.
قال أبو عبدالرحمن: إن تجاوزنا هذا المدخل بلا محاكمةٍ فكريَّة علميَّة مسبقة حَصَل التداخل واللَّبْس والخديعة.. وأوَّل ما نلاحظه إلزاماً لهيوم أن التجربة التي يؤمن بها مشروطةٌ بحضور العقل الذي قزَّمه هيوم في الأفكار الباهتة، والعقل يحضر في بداية التجربة بافتراضاتٍ مبنيَّةٍ على معارفه السابقة، ولا وزن للتجربة إلا بحضور العقل بمتابعتها إلى أن تَحْصُلَ نتيجتُها، ولا وزن للتجربة بعد النتيجة إلا بحضور العقل الذي يرصد أحوالَها، ويحفظ شروطَها ببواعث النتيجة والموانع منها، وما وعاه العقل من نتيجتها تصوُّراً وحكماً في حافظته وبذاكرته التي يسترجع بها تصوراته، ثم تبقى لديه من نتائج التجربة ضرورات أخذها العقل من الحسِّ؛ فينتقل منها مستشرقاً متطلِّعاً إلى معارفَ أخرى.. وبعد هذا فليس هناك انطباعاتٌ حِسِّيَّةٌ ولا إدراكٌ حِسِّيٌّ إلا بحضور العقل، ومع غياب العقل أو انشغاله يمرُّ الحسُّ عابراً لم يدرك منه العقل شيئاً إلا ما جبره على الحضور كأن يمشي الإنسان ساهياً فيطأ جمرة؛ فيحضر العقل مُرغَماً ويميِّز حرارة الجمرة عن حرارة غيرها، ويميِّز آثارها في الجسم.. وقول هيوم: ((الأفكار العقليَّة صورةٌ من الحس)) تحصيلُ حاصلٍ لا إلغاءٌ للعقل من جهة، وفيه غفلةٌ من جهةٍ أخرى؛ فأما أنه تحصيلُ حاصلٍ غير ملغٍ المعرفة العقليَّة فهو أن القَدْر الذي أدركه الحسُّ من المحسوس يغيب عن الحواسِّ بعد مزايلته ويبقى أمامَ بصيرةِ العقل يعاينُه كأنَّه أمامه بصفاته وأحواله وأحكامه وعلاقاته وفوارقه مع غيره، وربُّنا سبحانه له صورة، وصورته هي صفاته جلَّ جلالُه التي نَعِيْها بالوصف الشرعيِّ على الوحدانيَّة والكمال المطلق والتنزيه المطلق، ونحن عاجزون عن معاينَتها وتقديرِها كماً وكَيْفاً: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103) سورة الأنعام، وهذا معنى الحديث الشريف عن الإحسان: ((اعبد الله كأنك تراه)).. وهذا غير صورة المضاهاة التي هي الرسم على مثال المحسوس، بل الصورة هي الشيئ نفسه في بصيرة العقل التي يختزنها بحافظته ويسترجعها بذاكرته كما أخَذَها من الحسِّ بعد غياب المحسوس أو غيابُه هو عن المحسوس، ولولا الانطباع الذي ذكره هيوم لما كان المجرَّبُ معرفةً حسِّيَّة، وهو لن يكون معرفةً حسِّيَّة إلا بشهادة العقل.. وأما الغفلة فهي في جَعْلِه إدراكَ العقلِ أفكاراً؛ وإنما إدراكُلعقل تصوُّرُ الشيئ وتمييزه عن غيره، وأمَّا الأفكار فهي الوقائع والأحكام المجرَّدة من محسوساتٍ كثيرة، وتكون تلك الأفكار صواباً أحياناً وخطأً أحياناً إذا اعْتَوَرَ الأفكارَ ما يَعْتَوِرُ الحسابَ من الغفلة في جَمْع الأعداد أو طرحها أو ضربها أو قسمتها؛ فالتسوية بين مختلفين أو التفريق بين متساويين في الحكم غفلةٌ عن بعض ماهيَّة المحسوس.. ومن إهانة الفكر بِرُخصٍ وتسامحٍ إطلاقه الحكم بأنَّ الانطباعات في العقل صورةٌ باهتة للمحسوس؛ فهذا ضلالٌ آخر؛ لأن الانطباع هو نفسُه المحسوس حال إدراك العقل له من نوافذِ الحسِّ، ولا يكون باهتاً ألبتة، وأما غيابُ شيئ من المحسوس المثالِ للمعاينة أو السمع مثلاً فلا يكون إلا بغفلة العقل؛ فيفوته شيئ ويبقى ما أدركه ولو كان قليلاً غيرَ باهت، وأضربُ المثال لمن يستمع تلاوةَ مقرئ عَذْبِ الصوت جميلِ الأداء، ولكنْ لم يحضر العقل إلا للاستمتاع بجمال الصوت فقط؛ فإدراكُ العقل لمقوِّمات الجمال في الصوت، وتميُّز الصوت الجميل في الحافظة هو هو بلا زيادةٍ ولا نقصٍ، ولا يقال لإدراك العقل بواسطة السمع: (إنه باهت)؛ لأن العقل لم يدرك قوانين التجويد التي طبَّقها المقرئ، ولم يميِّز مخارج الحروف كلها، ولم يتدبَّر معاني كلام الله من تلاوة المقرئ، بل يقال: (لم يحصل للعقل معرفةٌ بهذه الأشياء لغفلته عنها قَصْداً، وأما إدراكه الجمالَ فهو كما سمِعَه غيرُ باهت).. والإنسان يرى القمر بالعين المجرَّدة، ويراه بما هو أوضح وأجلى بالتلسكوب (المجهر)؛ فلا يقال انطباع العقل من خلال العين المجرَّدة انطباعٌ باهت، بل ذلك هو واقع القمر حال بُعده وَفْقَ مدى قوَّة العين في الرؤية.. ومن سمع أصواتاً مختلطة لا يميِّز كلَّ واحدٍ بصوته فلا يقال: (إنَّ إدراك العقل انطباعٌ من السمع باهت)، بل ذلك هو واقع المسموع حال الاختلاط؛ إذن ثمة فرق بين ما أُدرك من المحسوس وما لم يُدرك، وثمة فرق بين قوى الحس في الإدراك، وهكذا من سمع صوتَ صديقه زيدٍ ولكنَّ المتكلِّم عمروٌ المختفي عن رؤية العين، أو سَمِعَ عُواءَ ذئبٍ، ولكنَّ العاويَ صديقُه خالدٌ الغائب عن العين: فإنَّ سماعَه سماعٌ لصوت زيدٍ وعُواءِ الذئب؛ فلمَّا رأى فيما بعدُ عمرواً يقلِّد صوتَ زيدٍ، ورأى خالداً يقلِّد صوتَ الذئب بنطقٍ وعواءٍ مطابقٍ: فلا نقول سماعُه الأوَّلُ خاطئٌ، وأنَّ العقلَ ضلَّ في تمييز الصوت، بل يُقال استجدَّ له علمٌ بقدرة عمروٍ وخالدٍ علىلمحاكاةِ محاكاةً طِبْقَ الأصل؛ فالسماع الثاني أضاف علماً جديداً ولم يُلْغ السماعَ الأوَّل، والمحسوس لا يُعْطيك إلا ما فيه، والحاسة تُضيف علماً جديداً إلى الحاسة الأخرى.. وأما من غشي الماء الأبيض عينه ولم يميِّز الجَمَلَ بِحِمْلِه عن الشجر، أو رأى أمام عينه مثلَ الذباب يتحرَّك من الجهات الأربع فرؤيتُه للجَمَل وحِمْله باهتة - وما عَرَفْنا أنها باهتةٌ إلا بإدراك العقل -، ورؤيتُه للذباب وهميَّة، وليس هذا خللاً في الإدراك العقلي، وإنما هو خللٌ في الحس، ومع هذا فلم يذهب هذا الإدراك العقلي هَدْراً، بل هو يُسَجِّل الهويَّة لحالةٍ من الحالات، وهي حالُ الرؤية لمن عرض له الماءُ الأبيض.. ومن الأغاليط عند هيوم مزجه بين الانطباعات الحسيَّة وأفكار العقل، وأنَّ الانطباعات أقوى وأشدُّ حيويَّةً.. ولا ريب أن الانطباع الحسِّي ليس حِسَّاً مجرَّداً، وإنما هو إدراكٌ عقليٌّ لما هو محسوس؛ فالانطباع عملُ العقل، وكلُّ موجودٍ هو على ما هو عليه قبل أن نعرفه، ولا يكون معرفةً حسِّيَّة إلا بشهادة العقل.. وقد أسلفتُ القولَ عن الأفكار، وليست دون الانطباع من الحسِّ بإطلاق، بل هي وَفْقَهُ إذا كانت الأفكار الحُكْمِيَّةُ صحيحةً لم يعرض لها ما يعرضُ للحاسب من الخطإ.. ومن المغالطات تعميم هيوم بأنَّ استخدامَ الذاكرة والخيال لمجرَّد ترتيب أفكارنا؛ وإنَّما الذاكرة استحضار ما أشاد به هيوم من الانطباع؛ فالذاكرة تستحضر من الحافظة ما أدركه الحسُّ بواسطة العقل من جميع أو بعض أحوال المحسوس التي تتبدَّى للبصر مثلاً، وأمَّا ترتيبُ أفكارنا فيكون أحكاماً مستقرأة من هُوِيَّاتٍ مختلفة، وحقيقةُ الترتيب هو بناءُ الضرورة المعرفيَّة على ضرورة معرفةٍ أخرى بترتيبٍ رياضيٍّ، وقد تحدَّثتُ كثيراً عن وصف العقل بأنه رياضيُّ التفكير.. ولا ريب أن الخيال في البداية ترتيبُ أفكارٍ واقعيَّة تنتهي إلى تركيبٍ لا يُعْلَم وجودُه في الأعيان، ولكنه ممكنٌ باحتمالٍ غير أمْكَن، ومحتملٌ بإمكانٍ أمْكَن كالقصة الواقعيَّة بمفهوم الواقعيَّة في الاصطلاح الأدبي، وقد يكون مستبعَداً في مجرى العادة كقصص ألف ليلة وليلة، ولكنَّ أجزاء التركيب موجودةٌ في المشاهدة بلا ريب؛ فالعقلُ عظيمُ الجلالة في واقعيَّته وفي تخيُّله، وهيوم ألغى بحريَّة سلوكه معارفَ العقل إلا ما أمكنَت إعادتُه بالتجربة وهو يعلم أنَّ التجربةَ صمَّاءٌ بغير شهادة العقل.
قال أبو عبدالرحمن: ولستُ أجد وجهاً معقولاً لتفريق هيوم بين الصور الذهنية التي سمَّاها أفكاراً وبين الحسِّ الباطن الذي سمَّاه مشاعرَ وانفعالاتٍ من جهة العقل؛ لأنَّ الصُّوَرَ الذهنيَّة شاملةٌ إدراكَ المحسوس الخارجيِّ وإدراكَ المشاعر التي هي الحسُّ الباطنيُّ، ومعنى أنَّها صورٌ ذهنيَّة يعني أنَّها رؤيةُ بصيرةِ العقل بعد غياب المحسوس أو الغياب عنه.. والفارق الوحيد غير المؤثِّر في ردِّ كلِّ معرفةٍ إلى إدراك العقل: أن المشاعر الباطنيَّة تجبر العقل على الحضور؛ ليكون شاهداً مُدْرِكاً .
وظلَّ هيوم في مَغْطَس الاسميَّة الصمَّاء في كلامه عن الكليات والعلاقات، وههنا أكتفي بخلاصةٍ تشير إلى هذه الاسميَّة من تلخيص الأستاذ الدكتور فاروق عبدالمعطي.. قال: ((إنَّ معانينا الكلِّيَّة جميعاً هي في الحقيقة معانٍ جزئيَّة مرتبطةٌ باسمٍ كلِّيٍّ يُذكِّر اتِّفاقاً بمعانٍ أخرى جزئيَّة تشبه في بعض النُّقط المعنى الماثل في الذهن، فاسم فرس مثلاً يُطلق عادة على أفرادٍ مختلفةِ اللون والشكل والمقدار؛ فبمناسبته تتذكَّر هذه المعاني (أو الأفراد) بسهولة.. والعلاقات تنشأ بفعل قوانين تَدَاعي المعاني.. أي قوانين التشابه والتقارن في المكان والزمان، والعلية.. هذه القوانين هي القوانين الأوَّليَّة للذِّهن تعمل فيه دون تدخُّلٍ منه، وهي بالإضافة إليه كقانون الجاذبية بالإضافة إلى الطبيعة؛ فهيوم يزيد على لوك أنْ ليس للذِّهن فعلٌ خاصٌّ في المضاهاة والتركيب والتجريد التي هي وسائل تكوين المعاني، ويقصر وظيفةَ الذِّهن على مجرد قَبول الانفعالات؛ فتحصل منها المعاني حصولاً آلياً بموجب قوانين التَّدَاعي.. والعلاقات التي تؤلِّف العلوم نوعان: علاقاتٌ بين انفعالاتٍ قائمةٍ في أن بعض الانفعالات عِلَلٌ والبعضُ الآخَرُ معلومات كما هو الحال في العلوم الطبيعية، وعلاقاتٌ بين معانٍ؛ وهي التي تتألَّف منها الرياضيات؛ فيتعيَّن النظر في كلٍّ من هذين النوعين)) (1)، وأُثنِّي بتبسيط هذه السفسطة غاية التبسيط (بما يليق بأنصاف المثقَّفين) مما كتبه أحمد أمين وزكي محمود -عفا الله عنهما.. قالا: ((جاء هيوم فانتزع من فلسفة بركلي نتيجتها اللازمة، وهي الشك؛ فالشكُّ هو الخاتمة التي انتهى إليها المذهب التجريبي الذي قام في إنجلترا.. ولقد أراد بركلي أن يتجنَّب الشكَّ ما وسِعَه ذلك، ولم يُرِد بمذهبه المثالي إلا أن يُخَلِّص حقيقتَي الذات [بل النفس] واللهَ من مِعول الماديَّة الهدَّام، ولكنه لم ينتبه إلى ما تؤدِّي إليه مقدِّماته من نتيجة.. كان هو بغير شكٍّ أوَّلَ من يرفضها ولا يرضاها؛ فلقد كان بإنكاره لوجود المادَّة إنما يُمهِّد الطريقَ لإنكار العالَم الروحيِّ أيضاً؛ وذلك لأننا إذا كنَّا نعجز عن معرفة شيئ إلا ما تُدركه الحواس؛ فليس من الممكن أنْ نعرف وجودَ العقل.. هذه هي النتيجةُ المنطقيَّة التي يتضمَّنُها المذهب التجريبي، وقد انتزعَها هيوم وجعلها أساساً لفلسفته كلِّها.. لقد قال بركلي: (إنَّ حقائق الأشياء الخارجيَّة ليست إلا صفاتهاالتي ندركها بالحواس، وأنَّه ليس وراءَ تلك الصفاتِ جواهرٌ كما يزعمون، وما دامت الصفاتُ من خَلْقِ عقولنا، فالأشياء الماديَّة الخارجيَّة حديثُ وهمٍ وخُرافةٍ)؛ فسلَّم هيوم بهذا القول، ثم زاد عليه أنَّ العقلَ أيضاً وهمٌ لا وجود له؛ فلا مادَّة هناك ولا عقل.. إنَّ التجربة - وهي المصدرُ الوحيدُ لعلمنا - لا تُقدِّم إلينا فيما تُقدِّم جوهراً من الجواهر الماديَّة أو العقليَّة، وكلُّ ما نُدركه من تجاربِ حياتنا مجموعةٌ من إحساسات (سواءٌ أكانت آتيةً من الخارج عن طريق الحواس، أم من الداخل بإصغائنا إلى بواطن نفوسنا) [قال هيوم]: ((وما دام العقل لا يعلم قطُّ إلا طائفةً من الإدراكات الحسِّيَّة، وما دامت كلُّ أفكارنا إنَّما نولِّفُها من الأحاسيس: كان من المستحيل أن نكوِّن بعقولنا فكرةً عن شيئ ما تكون مخالفةً في نوعها للآثار الحسِّيَّة)) (2).
قال أبو عبدالرحمن: لن أُثْقِل عليكم بزيادة نصوصٍ إلا بعد مُحاكمةٍ جادَّةٍ على منهج الوقفات التي ألِفْتُمُوها على هذا النحو:
الوقفة الأولى: أنَّه وَصَفَ الظواهرَ الوجدانيَّة الأوَّليَّة بأنَّها إدراكاتنا القويَّة البارزة، ثُمَّ أَدَرَجَ مع ذلك انفعالاتِ الحسِّ الظاهريِّ.. وإنَّني لأعْجَبُ من انبساط هؤلاء لمغالطاتٍ مفضوحةٍ لا تَليقُ بعبقريَّتهم، ولا تَنِدُّ عن مواهبهم، وجوابُ ذلك أنَّ ذلك أوَّلُ ما نتلقَّاه، ويعي الطفلُ اللذَّةَ والألمَ ببكائه وفرحه قبل أن تستقرَّ رُؤية بصره وسمعه بالمفارقة بين الأشياء؛ ولهذا تراه يُمسك الجمرة اليوم وهي التي آلمته أمسِ إذا لم يُحْفظ من ذلك؛ فإذا استقرَّ سمعُه وبصرُه بدأ إدراكُه العقليُّ بالتصوُّر والتذكُّر فقط؛ فيتحاشى لمسَ الجمرة التي كَوَتْهُ أمس.. وهذا الوعي العقليُّ البدائيُّ التصوُّريُّ ليس هو المعرفة العقليَّة الحكميَّة التي تَستنبط أحكامَ العقل، وتُرتِّب البراهين من تلك الأحكام.. والطفل لا يملك النطق - إلا على التدرُّج - لتسمية الأشياء بأسمائها؛ لأنَّ اللغة هي وعاءُ مفرداتِ التصوُّر، وجُمَل اللغة حيث وعاء الاستنباط وترتيب الأحكام والبراهين؛ فبداية المعرفة حقيقة باللغة الكافية، وببداية العقل باختزان صُوَر الهُوِيَّات وعلاقاتها وفوارقها وأحكامها وحِكَمِها، وهذا يبدأ عادةً فيما بين السنة الرابعة من عمر الطفل إلى السابعة، ولكنَّ الله رحم عباده فلم يجعل مسؤوليَّتهم إلا بعد بلوغ الحلم (سنِّ التمييز الكافي)، وتقدُّم التمييز قبل ذلك يكون حسب التدريب في التعليم، وقوَّة الذاكرة والذكاء، وسلامة الحواس؛ إذن إدراك المحسوس الباطنيِّ والظاهريِّ لا يكون معرفةً عقليَّةً منظَّمةً إلا بعد بلوغ التمييز، وما قبل ذلك يتدرَّج من وعيٍ شعوريٍّ إلى تصوُّرٍ يُعين على التذكُّر كما يحصل للحيوان.
والوقفة الثانية: أنَّ هيومَ يُبعد من نصاب المعرفة الكلياتِ والمعانيَ المجرَّدةَ، ويَلْزمُه في هذا أن يرتدَّ عن العلم التجريبيِّ الذي يؤمن به؛ لأنَّ ما يُجرَّب لا يُحْصى، وهو لا يستشرف إلى تجربةٍ أخرى إلا بكلياتٍ ومعانٍ أخذهما بالضرورة العقليَّة من الحسِّ المكرَّر (التجربة)، وكلاهما حسِّيٌّ بيقينٍ لأنَّهما قائمان في المحسوسات؛ فجرَّدهما العقل من المحسوس؛ لينتفع بهما في استشرافه.
والوقفة الثالثة: أنه من المغالطة المتعمَّدة بيقينٍ لا لَبْسَ فيه زَعْمُ هيومَ أنَّ المعاني الكليَّة معانٍ جزئيَّة ترتبط باسمٍ كلِّيٍّ!!.. فيا للعقول التي تقبل هذا بتسامح!!.. إنَّ الكلِّيَّات من الاسم قانونٌ لغويٌّ لا غير كقولك: كلُّ ما زاد على أصل الكلمة الثلاثيَّة فهو لزيادةٍ في المعنى مثل (غلَّاب)، أو لإزالة المعنى مثل (مرَّضه)، وكلُّ ثلاثيٍّ ورباعيٍّ أوَّلُه ألفٌ فألفُه مهموزةٌ في الأفعال والأسماء، وأمَّا الكلِّيَّات التي يعنيها هيومُ فهي مجرَّدةٌ من المحسوس المسمَّى لا من اسمه.
والوقفة الرابعة: أنَّ هيومَ خلط بين الكلِّيَّات والمعاني المجرَّدة، وليس هذا بصحيح؛ فالكلِّيَّات تتعلَّق بالمسمَّى نفسِه، وهي تشتمل على معانٍ مجرَّدةٍ من المسمَّى، وأما المعاني المجرَّدة فتكون معانيَ مجرَّدةً من محسوساتٍ كثيرةٍ غير مُتَّحِدة الهُويَّة ولا الاسم، وهي معرفةٌ حسِّيَّةٌ؛ لأنَّ العقل أخذهما مما أَحَسَّه.
والوقفة الخامسة: أنَّ هيومَ خلط بين الكلِّيَّات المجرَّدة والمعاني المجرَّدة التي هي المحسوس نفسُه، وهي المحفوظة في الذاكرة من تصوُّر العقل العارف وبين تداعي المعاني إلى معانٍ مشابهة؛ فذلك معرفةٌ عقليَّةٌ أخرى للحديث عنها مجال.
والوقفة السادسة: أنَّ هيومَ يجعل معاني الفرس مأخوذة من اسم الفرس لا من الفرس نفسه، واسم الفرس [كلا بل الفرس نفسه] أفراد مختلفة اللون والشكل والمقدار؛ فتتذكر هذه المعاني أو الأفراد بسهولة.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا ثلاثُ غفلاتٍ لا تليق بأيِّ فيلسوفٍ له قيمتُه الفكريَّة؛ فالغفلة الأولى: أنَّه جعل المعاني مأخوذة من (اسم) الفرس، وقد أسلفتُ أنَّ المعاني مأخوذةٌ من المسمَّى نفسِه الذي هو الفرس، وبيَّنتُ الفرق بين هذا وبين ما يؤخذ من (الاسم) بقانونٍ لغويٍّ.. والغفلة الثانية: حكمه بأننا نتذكَّر معاني كلِّ فرسٍ بسهولة، وليس هذا بصحيح؛ فقد تضعف الذاكرة فلا تستجِرُّ كلَّ ما في الحافظة إلا بمعايَنةٍ أخرى.. والغفلة الثالثة: أنَّ سياقه هذا عن إنكار المعرفة بالكلِّيَّات والمعاني، وأَّنها صورٌ في الذهن غير مطابقةٍ للواقع.
قال أبو عبدالرحمن: ثَمَّةَ فرقٍ بين صحَّة المعرفة فيما عُرف، وحصول الجهل بما لم يُعرف، فرؤيتي عشرة أفراسٍ مختلفةِ اللونِ والشكلِ والطبيعة، وتجريبي ذلك بركوبهنَّ على آمادٍ بعيدة.. كلُّ ذلك آخذٌ منه بالعقل معرفة معانيَ مجرَّدةٍ حقيقيَّةٍ، وكلِّيَّاتٍ حقيقيةٍ؛ فإذا رأيتُ وجرَّبتُ عشرةَ أفراسٍ أخرى مختلفة اللون والشكل والطبيعة فذلك يزيدني معرفة، ولا يُلغي معرفتي السابقة، ولا يحكم بخطإ ما عرفته.. ثم إنَّ واحدية الاسم لكلِّ ما هو فرس تعطي كلِّيَّاتٍ ومعانيَ يتصوُّرها العقل توجد في كلِّ ما هو فرس وإن وُجدت الفوارق.
والوقفة السابعة: أنَّ التداعي الذي ذكره هيوم ليس قاصراً على التشابه والتقارن في المكان والزمان والعِلِّيَّة (مع أنَّه العدوُّ الألدُّ للعلِّيَّة)، بل هناك تداعي الميول والذكريات والضرورات والإمكانات والإحالات.
والوقفة الثامنة: من الضلال المبين المتعمَّد الزعم بأنَّ التداعي هو أوَّل قوانين الذهن!!.
قال أبو عبدالرحمن: كلا والله، بل أوَّل قوانين الذهن من ضروراتٍ اكتسبها من الخبرة الحسِّيَّة كالواجب المتعيِّن، والمحال الممتنع، والمحتمل الممكن غير الأَمْكَن أو الممكن الأَمْكَن، والتوقُّف لتخلُّف المعرفة بين احتمالاتٍ متكافئة، وكلُّ ذلك مبنيٌّ على ما تصوَّره العقل من هُوِيَّاتِ ما عرفه من المحسوسات ووعاه في ذاكرته.. والتداعي استثمارُ تلك القوانين في ترتيب الأفكار وفي تأليف الصور الخياليَّة.
والوقفة التاسعة: أنَّ هيومَ جمع بين الخطإ في جعل التداعيات أوَّل القوانين وبين التناقض؛ إذْ قال عن تلك التداعيات: ((تعمل في الذهن دون تدخُّلٍ منه))؛ فلستُ والله أعي - ولا العقل المشترك يعي - وجود تداعياتٍ ليست من إدراك العقل وتصوُّرِه وحفظه واستدراكه، ولستُ والله أعي معرفةً لا يكون العقل فيها شاهداً.. وإلى لقاءٍ مع مثل هذه السفسطات، والله المستعان، وعليه سبحانه الاتكال.
(1) ديفيد هيوم الفيلسوف الأديب من 34 - 35 - دار الكتب العلمية - طبعتهم الأولى عام 1413هـ
(2) قصة الفلسفة الحديثة ص 232 - 233 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1368هـ
وكتبه لكم
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -