فرغتُ للتوِّ من قراءة متأنية للفيف من المفكرين العرب: نصارى ومسلمين، مقيمين في ديارهم أو مهاجرين، متخرجين من جامعاتهم أو مبتعثين، متأسلمين أو متعلمنين، وتوسلت بالتفكيك والتأويل لاستجلاء ما تحت السطور، وتنقلت بين القنوات الفضائية أنظر الفضائح والفظائع والقمع والمطاردة، وأرجعت البصر كرتين،
ورجعت من هذا وذاك بنتيجة أكاد أجزم بأنها حتمية، وهي أن العالم الإسلامي بشقيه: العربي والأعجمي بأمس الحاجة إلى التنوير، وما أتمناه يختلف شيئاً قليلاً عما يتبناه الجم الغفير من المفكرين العرب الذين استحوذ عليهم سلطان التنوير الغربي الناسل من صراع العلم مع الدين والعقل مع الخرافة على أنه استحواذ مرتبك تماهياً مع تداعيات المصطلح المراوغ؛ فالتنوير مصطلح تتناسل مفاهيمه بعدد الأزمنة والأمكنة والأناسي، ومن ثم تتناقض النظرية مع التطبيق، فالمتلبسون به بوعي أو ببلاهة يعانون من ضياع الهوية، والتماهي معه مجرد دعوى لا دليل عليها، لأن بلد المنشأ لا يميل إلى مصطلح جامع مانع، وحين يفقد المصطلح شرطه تضيع الفئات المتلبسة به، لقد تعلق الكافة من هذا الصنف المتعولم بالشعار ووضعوه نبراساً يستضيئون به، ولكن تعويم مفاهيمه أدخلهم في دوامة التيه.ولو كانوا على بصر وبصيرة لما ذهبت ريحهم منذ (رفاعة الطهطاوي) الذي خرج مع المبتعثين يلتمس لهم نجوة من هلاك فهلك، حتى آخر صوت لما تزل تتردد أصداؤه في أرجاء المعمورة، ولو أن الآيات البينات والنذر الواضحات تغني لكان بإمكان القوافل التائهة أن تجد الطريق القاصد، وكان بإمكان المفلسين أن يفتشوا في دفاترهم القديمة وأن يراجعوا حساباتهم ويقوموا منجزاتهم.والتنوير بضوابطه الحضارية يتماهى مع التجديد ومواكبة الحياة والاستجابة لمطالب المرحلة المعاشة، ومبدأ التجديد مبدأ إسلامي بشر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين وعد الأمة بالمجددين على رأس كل مائة عام، والتجديد يعني نفي ما علق بالدين من أحكام لا تحمل مقاصد الإسلام ولا تراعي مصالح الأمة في راهنها وفي ظل ظروفها المأزومة.والعدول المجددون هم أولئك الذين ينفون ما لحق بالدين من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، فينفون ذلك الوضر كما ينفي الكير خبث الحديد، ومن ركن إلى الجمود والتقوقع، واكتفى باجترار ما خلفه الأوائل، وتمسك بمقولة: (لم يترك الأول للآخر شيئاً) فقد قعد بالأمة عن اللحاق بالركب المخب في فيافي العلم والتقدم.وهل عاقل يتصور قفل باب الاجتهاد ومواجهة النوازل؟ وهل عاقل لا يتصور أن في الخلف من هو أوعى من السلف؟ وهل أحد يجهل قول المبلغ عن الله: (فرب مبلغ أوعى من سامع)؟ وفي المقابل فإن من اهتاج اهتياج الأعزل الغر، واندفع وهو خالي الوفاض من العلم صفر اليدين من التجارب، وقال في كتاب الله بغير علم ولا هدى ولكتاب مبين، واستهوته البروق الخلب وخدعه الخب أضاع الأمة، وأذهب ريحها، وجعل أمرها في سفال.
وعلى شاكلة هذا الصنف من ملك آلة الاجتهاد وشروطه وتوفر على العلم الشرعي والمعرفة بمستجدات الحياة ومطالبها، ثم غلَّب السلامة واعتزل العراك وفضل العض على جذع شجرة حتى يأتيه الموت تحت أي تبرير.هذا الاعتزال يهيئ الأمة لقادة سوء يمرون بها على جيف الكلاب، لقد هيئت الفرص لدعاة سوء تضلعوا من آسن الغرب وأشربوا في قلوبهم حب المستجد على علاته، فأجادوا الهدم، ولم يحسنوا البناء، ومن ثم استنزفت طاقات الأمة في الفعل غير السديد ورد الفعل غير الرشيد.
إن واقع الأمة بأمس الحاجة إلى علمائها ومفكريها وساستها ورجال التربية والاجتماع والاقتصاد فيها، وبأمس الحاجة إلى المأسسة وتوسيع قاعدة المجتمع المدني بمفهومه الإسلامي لا بالرؤية الغربية المادية، وضرر الأمة في هجرة الأدمغة أو تخليها أو تهميشها لا يقل عن ضرر الغزو والتآمر اللذين واكبا مسيرتها، منذ (ابن سبأ) و(ابن سلول) حتى (نابليون) و(سايس بيكو) ودعوى أسلحة الدمار الشامل وإحياء النعرات العرقية والتعصب الطائفي والإثني الإقليمي، وما لم يتلق المقتدرون أزِمَّتَها بإيمانهم وأزماتها بعزماتهم ويرودون لها المجاهيل فإن عَجَزَة وفارغين سيبتدرون سدة المسؤولية وساعتها تكون الطامات الكبرى، وفي ظل هذه الظروف المدلهمة يكون من فروض العين على كل مقتدر أن يحفظ ثغره، وأن يهدي ضال المسلمين، ولا سيما إذا كان عائد المقْتَرَف عاما لا يصيب الذي ظلم خاصة، بحيث لا يغلو ولا يفرط ولا يقسو ولا ينفر، وكيف تتأتى النتائج في ظل الصلف والعنف والقسر والقهر والظلم أو التفريط والتواكل، والله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} والرسول -صلى الله عليه وسلم- وقوله وحي وفصاحته تبهر فصحاء العرب لا يبادر أصحابه إلا حيث يكون الاستعداد والتهيّؤ، ولهذا فهو يتخول أصحابه بالموعظة، ويقول للمطيل الصلاة بالمأمومين، (أفتان أنت يا معاذ).. فهَمُّ الإصلاح يقي مصارع السوء، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} إن التنوير المطلوب تركيبة معقدة أشبه بالتركيبات الكيميائية فالمتعقب لأساطين التنوير يروعه تصورهم لإسلام الماضي والحاضر والمستقبل، ولأن القرآن هو حبل الله المتين فقد تهافتوا على نقضه وجعله أنكاثاً، متوسلين أساليب وطرقا مخادعة، ولعل أخطرها المطالبة بتطوير الفكر العلمي بماديته البحتة، وهذا الفكر لن يتأتى له التطوير حتى تعاد قراءة القرآن الكريم بمنهج النقد التاريخي على ضوء تنظير (ثيودور نولدكه) في كتابه (تاريخ القرآن) الذي ترجمه (جورج ثامر) (وهي ذات الرؤية التي تبناها (محمد أركون) في العديد من كتبه، ولن نتوغل بحيث نربط بين تلك الرؤية، وما سبقها من قراءات للعهدين الجديد والقديم النصرانيين إذ قرئا على ضوء منهج التاريخ النقدي، الأمر الذي أدى إلى إجهاضهما.وفي كتاب (أركون) (قراءات فيلقرآن) مناشدة ملحة لممارسة منهج التاريخ النقدي مع القرآن الكريم واستهجان لموقف العلماء والمفكرين الإسلاميين من هذا المنهج، وذلك بعض رؤية التنوير المعاصر، والسواد الأعظم من الذين يطالبون بالتنوير ويتبنونه لا يعرفون دخائله حق المعرفة، وعندما نواجه بأوباش يهرفون بما لا يعرفون نحتاج إلى مرحلة انتقالية، تمكن هذا الصنف من تجاوز مرحلة الجهل المركب، وهو أنهم يجهلون، ويجهلون أنهم يجهلون، وعندما يزعنون لمعرفة مبلغهم من الجهل، يكون من السهل الدخول معهم في حوار حضاري يحملهم على احترام محققات حضارة الانتماء، وطرح مشروع تنويري مؤسلم.إن ناشئة الأمة المسيطرين على المشاهد يتطاحنون حول قضايا هامشية، ووقوعات جانبية فيما يدير المفكرون المتضلعون مشاكلهم الرئيسة وقضاياهم الأهم عبر مؤسسات عريقة لها نظراتها المستقبلية، أولوياتها وتوازنها وتفسحها للرأي ونقيضه.إننا بأمس الحاجة إلى التنوير، وهل أحد يستطيع إيقاف عجلة الحياة، إن الجمود يعني إيقاف دورة الزمن، والإشكالية ليست في المبدأ ولكنها في أسلوب الأداء، ولكي نبتدر المهمة بتفكير سليم لا بد أن نضع التصور السليم للتنوير المطلوب، فما يتطلبه التنوير الغربي لن يكون بالضرورة صالحاً للتنوير الإسلامي، إذ لكل أمة شرعة ومنهاج، ولم يعد المسخ طريقاً للنجاة.
والغربيون وإن بدأوا التنوير من عقود فإنهم يرون أنهم لما يزالوا بأمسّ الحاجة إلى ديمومة الفعل التنويري، فالحياة كالنهر تتدفق بالتغيير، وما لم يكن هناك استعداد لمواجهة المستجدات وإمكانيات استثنائية للتوفر على فقه الواقع والتوقع والتمكين والأولويات والنوازل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والطبية فإن التعثر سيعتري مسار الأمة ويحول الممانعة إلى قابلية للاستسلام والخنوع، ومهمة التنوير تهيئة الأجواء لقبول المستجد متى كان أجدى وأهدى، ومتى وافق المقاصد والمصالح، وتبنته المؤسسة الدينية المعتصمة بحبل الله، والمتوفرة على المنهج والآلية والمعرفة.
إن التنوير العربي يعيش حالة من البؤس والإفلاس؛ لأنه يفتقر إلى التأصيل والتأسيس والانطلاق من قعر الواقع وتلمس الحاجات الفعلية والتقدير والتدبير، وما لم نمتلك الشجاعة لإعادة قراءة المشروع فإن زمن التيه سيظل كما هو، وما لم نحترم ثوابت الأمة فإننا سنتحطم على صخرة اليأس. ولما كانت حياة الغرب تجنح للمادة وترفض البحث فيما وراء الموت، واكتشاف الأجدى عنده مرتبط بحسابات الربح والخسارة المادية فإن حياة الشعوب المتدينة تتطلب المواءمة بين الممكن والمرجعية؛ ذلك أن الحكم لله وليس للبشر، وحين يواجه المجتمع بلحظة التحول لا بد من الرد إلى الله، ومن هنا تختلف آلية التنوير ومنهجه في العالم الإسلامي عن التنوير في العالم الغربي المتعلمن.
وما لم يع قادة الفكر وأساطين السياسة هذه المفارقة فإن أي مشروع يكون معرضا لخلخلة الوحدة الفكرية في الأمة، ولا شك أن ما تعانيه الأمة العربية من انتفاضات إن هو إلا محصلة التراكمات والاحتقانات والإخفاقات التي يأتي في مقدمتها إخفاق التنوير، إن علينا أن نملك الشجاعة ورباطة الجأش ونسأل: - لماذا فشل مشروع التنوير العربي؟ وليس شرطاً أن تكون الإجابة هي ذات الإجابة التي طرحها «هاشم صالح» في كتابه «الانسداد التاريخي» ذلك أنه مستغرب متعلمن ونسخة مكررة ومشوهة لفكر «محمد أركون». وإذا أقر الفرقاء بالفشل فإن على الناصحين أن يعيدوا التجربة، ولكن بمنهج مغاير، والأمة العربية وهي تعيش حالة من العصف الذهني والسياسي بأمس الحاجة إلى مشروع تنويري يطرح كل التجارب الفاشلة ويقدم مشروعاً من عند نفسه متصالحاً مع إمكانياته وخلفياته الثقافية والدينية والاجتماعية.والتنوير الغربي الذي اجتاح مشاهد الأمة لم يكن قادراً على اجتثاث جذوة الإيمان من أعماق النفوس، وهذا هو السبب الرئيس للممانعة المعطلة لكل حراك، والذين يوازنون بين اتصالنا المبكر بالغرب واتصال (اليابان) ثم ينحون باللائمة على الأمة العربية التي لم تكن موفقة في استثمار هذا الاتصال يجهلون أو يتجاهلون أن الغمد لا يتسع لسيفين، فالإسلام بقيمه وأنظمته وتعاليمه يملأ جوانح الأمة، ولو كان تواصلنا مع الغرب علمياً بحتاً بوصف العلم إنسانياً لا عرق له ولا دين لكان ذلك أجدى وأهدى، ولكننا أخذنا منه ما لسنا بحاجة إليه من آداب وأفكار وعلوم إنسانية، ومن ثم شغلت الأمة العربية بما هي في غنى عنه واستقبلت ما لا حاجة لها به.
إن الثورات الشعبية التي تعصف بعالمنا العربي قد توفق في صناعة خطاب سياسي مغاير، وعسى أن تجد متسعاً من الجهد والوقت لصناعة أسلوب جديد للتنوير ينهي زمن التيه، ويعيد الأمة إلى المحجة البيضاء التي تركنا عليها المبعوث رحمة للعالمين.