يملك اليمن من مقومات النهوض والسعادة المستدامة ما لا يملكه إلا قلة قليلة من دول العالم الثالث، فهو ثالث بلد عربي من حيث القيمة التاريخية القديمة، ويقال منه هاجر سكان حضارة ما بين الرافدين، بعد أن سادت به حضارات سبأ ومعين، وحمير، وحكمت به الأسطورة التاريخية بلقيس، وبه بني أول سد، وقد ذكرت جناته في كل الكتب السماوية، وكان يسمى باليمن السعيد قبل أن يحوله تعاقب الحروب إلى يمن تعيس.
واليمن أصل العرب جميعاً مسلمين ومسيحيين ويهود، قحطانيون، وعدنانيون، وغيرهم، وفي تصوري لو كان اليمن بلدًا أوروبيًا، أو لو كنا نحن العرب نفكر بفكر أوروبي لقدرنا قيمة اليمن التاريخية، وقيمة أن جذورنا تمتد إلى هناك، ولذا ففي تصوري فإن اليمن كان هو المكان الأنسب تاريخياً لاحتضان الجامعة العربية تأكيداً لأصالة أمتنا ووحدتها، بدلاً من تنقلها بين العواصم العربية.
واليمن يشكل حالة فريدة بالنسبة للأوضاع العربية، ففيه تتجلى جميع الجينات العربية الاجتماعية والإثنية، فلو أراد دارس أجنبي دراسة خصائص المجتمع العربي لوجدها في صورها الأولى متجذرة في اليمن على شكل: قبلية، مناطقية، عشائرية، عصبية، عادات وتقاليد صارمة، وتخزين للثارات. واليمن بما يتمتع به من أنفة وشجاعة بقي أبيًّا وعصيًّا على الاستعمار، ولذلك يسمى مقبرة المستعمرين قدماء كالفرس والأحباش، وحديثين كالأتراك والإنجليز. بل يمكن القول لو اتخذنا، علم الأحياء نموذجاً، أن استنساخ الأمة العربية غير ممكن إلا من خلية أولية يمنية، لأن اليمن بكل ما فيه من مآسٍ ما هو إلا صورة كروموزومية للوطن العربي.
ولإخوتنا في اليمن، خلصهم الله من محنتهم، قرص في كل عرس، فهم تجار لا يشق لهم غبار، ومعماريون على أعلى طراز، حيث لهم طرز من العمارة بالطين انفردوا بها ووقف العالم ولا يزال يقف حيالها مشدوهاً، وهم أصل معظم التراث الموسيقي المسمى بالتراث الخليجي، وهم شعراء وأدباء وفنانون بالسليقة. اليمن باختصار يملك كل شيء، التاريخ، والجغرافيا، والطبيعة، والعقل والمال، فما الذي نقله من السعادة للتعاسة؟
مائتا عام من القبلية المفرطة والتجهيل الشامل، والمذهبية والطائفية هي المسببات الرئيسية لتعاسة اليمن. فبعض أئمة اليمن حرّموا العلوم الحديثة إلا علمًا واحدًا فقط، ومنعوا عنه جميع المنتجات الحضارية الحديثة، حتى إنه يقال إن أحد الأئمة كان حرم دخول جهاز الراديو لليمن، وكان يستعمل أجهزة التسجيل المحرم تداولها لإيهام الشعب بأن الوحي ينزل عليه. وكان يكافئ القبائل والأسر التي تبعد أبناءها عن مدارس الكفار المستوردة ويقربها منه، ويخشى القبائل المتمردة ويأخذ رهائن من أبناء قادتها في قصره. فمرض الناس في عقولهم وأبدانهم، وتكونت لديهم صور مغلوطة عن العالم من حولهم، واستدلوا على القات وعليه اقتات الكثير منهم.
استخدم بعض الأئمة القبائل لتدعيم سلطته، وتقسم المجتمع إلى دوائر قبلية تختلف في قيمتها وقيمة ما تملك من أموال وإقطاعات حسب قربها من مركز السلطة الإمامية، وخلال المائتي عام تمت الصياغة الحديثة للمجتمع اليمني. ومنذ ذلك التاريخ ظهر ارتباط بين القبلية وأي سلطة سياسية تحكمه، فإذا اتفقت القبيلة والسلطة استقر اليمن، وإذا افترقتا دبت الفوضى في اليمن. وعجزت اللبرالية، والاشتراكية بل وحتى الشيوعية في فك طلاسم قبلية اليمن، وفشلت جميع محاولات اقتلاعها، بل إنه يمكن القول بأن ما حصل هو العكس تماماً، حيث اقتلعت القبلية الاشتراكية والشيوعية في اليمن.
سقطت القبلية الإمامية في عام 1962، في عز الحرب الباردة، فحكم السلال الناصري فأقصي لتعلقه بعبدالناصر وجيشه، ثم تبعه عبدالرحمن الأرياني 1967م على ورقة الاستقلال عن مصر واستقال لقناعته باستحالة حكم اليمن، ليحكم إبراهيم الحمدي في عام 1973 وكان عسكرياً شاباً يجهل أصول اللعبة الدولية فحاول الالتصاق بالشيوعية في الجنوب، وأعلن عن رغبته بتخليص اليمن من قبضة القبلية، ليقلى حتفه بقنبلة قبلية دبرت من زملاء له من أصول قبلية متجذرة منهم أحد الغشمي، وكان صالح آنذاك قائد فرقة مدرعات، فقتل الغشمي بقنبلة أرسلت له في حقيبة من اليمن الجنوبي انتقاماً لقتل الحمدي، وأراد صالح الانتقام للغشمي فتولى السلطة بمساعدة الشيخ عبدالله الأحمر، الذي يعد أحد أقوى زعماء القبائل وأدهاهم في تاريخ اليمن.
لعب المرحوم الأحمر دور القبلي السياسي ورئيس البرلمان لعقد ونيف، بينما لعب صالح دور السياسي القبلي، أي السياسي المعترف بنفوذ القبيلة، واستقر شمال اليمن بتوافق القبيلة والسلطة، حيث اجتمعتا في القبيلة ذاتها. بينما مزق قادة الحزب الجنوبي بعضهم البعض في حرب مرعبة لعبت القبلية فيها دورًا كبيرًا، حيث لجأ كل عضو في الحزب الشيوعي في النهاية لقبيلته، بعدها خرج علي سالم البيض سليماً يطلب حماية الشمال والوحدة معه، فانظم الجنوب للشمال، واستقر اليمن فيما بعد لسبعة عشر عامًا، قبل أن تظهر التصدعات بين الطرفين.
كان الأحمر، رحمه الله، يبحث عن دور سياسي لأحد أبنائه من بعده، وكان يحب أن يرى أحدهم في سدة السلطة، لاسيما وأن يعتقد أنه هو من أوصل صالح للسلطة، لكن صالح أدخل اليمن في دهاليز لعبة الانتخابات للالتفاف على ذلك، وحاول الأحمر جاهداً الوصول لذلك من خلال البرلمان والانتخابات، ودخل ابنه حميد في عضوية حزب تجمع الإصلاح، أحد أكثر الأحزاب شعبية في اليمن غير أن ابن عمه السياسي كان يغير قواعد اللعبة تارة بعد أخرى حتى يبقى على التوازن القديم، هو في السلطة وهم في البرلمان.
وكانت الصراعات سياسية ظاهرياً، واقتصادية تحت السطح. فزعيم قبائل حاشد يحتاج المال لضمان استمرار ولائها له، وهو يعرف أن المال، وليست السمعة فقط، يلعب دوراً مهماً في تعزيز الولاء، ولذلك تحول أولاده لرجال أعمال وإقطاعيين تدعمهم سلطتهم القبلية، بينما استخدم الرئيس أموال البترول، والغاز، والمساعدات الخارجية، والدعم العسكري لمحاربة الإرهاب لتقوية قبضته في صراع لي الأذرع مع قبيلته ذاتها. أي إن القبيلة اختلفت مع السلطة فبدأ الاستقرار بالتآكل.
أما الشعب الذي قتله الفقر، وتفشت فيه البطالة، واستحكم به اليأس، يضاف له شعب الجنوب الذي لم ير أي فائدة عادت عليه من الوحدة، فقد أدرك أن اللعبة الانتخابية ليست له بل لحفظ التوازن بين طرفي القوة في اليمن فخرج متظاهراً، فانتهز الطرف القبلي الفرصة لإضعاف السلطة وأظهر دعماً معنوياً، وشبه حماية عسكرية للمتظاهرين، ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. شعب يغلي وقنابل الأطراف المتصارعة تمر فوق رأسه.
ونتمنى أن تكون هذه هي آخر مآسي أشقائنا في اليمن، كما نتمنى أن يتحرك مجلس التعاون بشكل أكثر جدية، لإعادة التوازن في اليمن، ولتسريع انخراط اليمن في مجلس التعاون، لأن اليمن بما يملك من إمكانيات طبيعية وبشرية كامنة قد يشكل إضافة فعلية للمجلس ودعمًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا له. وكل ما على دول الخليج أن تتحرك لتطوير اليمن فهو عمقها الأوسع وخاصرتها الجنوبية.
latifmohammed@hotmail.com