في تسعينات القرن الميلادي الماضي كانت السيطرة في أدبيات التنمية لمصطلح (النمور الآسيوية) الذي يصف عدداً من دول جنوب شرق آسيا من أهمها: سنغافورا وماليزيا وإندونيسيا وكوريا، وذلك لنموها الاقتصادي المذهل. وفي آخر تلك التسعينات أُرسل إلى تلك الدول وفد سعودي من عشرة خبراء، كان من بينهم كاتب هذه السطور، لاستكشاف سر نهضتها الاقتصادية من أجل الاستفادة منها في المملكة. قابل الخبراء عدداً من رؤساء الحكومات والوزراء وكبار التنفيذيين في الشركات، وجمعوا من المعلومات ما يُثير غبطة الأصدقاء وحسد الأعداء.
وفي ذات الفترة التي كانت فيها طائرة الخبراء السعوديين تتنقل بإعجاب وذهول بين عواصم النمور، كان هناك نسر يحوم في أجوائها منتظراً نفوقها كي يتغذى على جيفها. إنه (جورج سوروس) مُضارب العملات المثير للجدل، الذي أدرك بحسه الغريزي أن نموها الظاهري يُخفي فجوات قاتلة، وأن عُملاتها مُقيمة بأعلى من قيمتها العادلة.
وصل الخبراء السعوديون إلى الرياض سعيدين بغنيمتهم وبما اكتشفوه من خلطات سرية للتنمية المستدامة، في الوقت الذي كان فيه (سوروس) ينقض على (الرنقت) الماليزي ويُرديه أرضاً كي تتهاوى النمور كما ينهار قصر من الرمل شيده طفل على شاطئ مائج. تذكرت هذه القصة عندما قرأت دراسة معدة من (بلومبرق) عن تجارب ناجحة من ثماني دول تقترح الدراسة على الولايات المتحدة الاستفادة منها لتحفيز اقتصادها المريض بدلاً من التناحر بين قُطبي الحكم، الديموقراطيون والجمهوريون.
سأنتقي خمسة من تلك التجارب: تُعد ألمانيا من أقل الدول الغنية في نسبة من يملكون منازل إلى عدد السكان، (46% مقابل 70% في أمريكا). وفي المقابل تتمتع أسعار المنازل في ألمانيا باستقرار كبير، فلم تتجاوز نسبة الارتفاع (9%) منذ 2003م.
والسبب هو أن أنظمة الرهن العقاري متشددة وغير مدعومة من الحكومة. الدرس المستفاد هو التخفيف من غلو الديموقراطيين في دعم المساكن. ومن البرازيل خطة (البرازيل من دون فقراء) للقضاء على الفقر عبر دعم الفقراء بالتدريب ومحو الأمية وتزويدهم بالكهرباء والماء ومنحهم الوثائق القانونية لأشخاصهم ومساكنهم. الدرس للجمهوريين ليكونوا أكثر اعتدالاً في رأسماليتهم. ومن تركيا: تجربة (الوكالة التركية لدعم وتشجيع الاستثمار) التي نجحت في جذب استثمارات مباشرة تفوق نسبياً ما تلقته امريكا. وتقدم الدعم القانوني للمستثمرين والتدريب للعمال الأتراك. ومن الصين حيث خصصت في الخطة الخمسية الحالية حوالي نصف تريليون دولار للطاقة المتجددة. ومن سنغافورا: برنامج (SPUR) الذي يدفع مبالغ للشركات لتدريب عمالها الفائضين بدلاً من تسريحهم. بعد الإنترنت لا حاجة إلى إرسال وفد حكومي إلى تلك الدول.
ibrahim@alnaseri.com