لا شك أن للإعلام دوراً فاعلاً في حركة الحياة، وتأثيراً قوياً في مجريات الأحداث، وبصمة واضحة في القدرة على تشكيل الرأي العام وصياغته، وهذه من المهام الأساسية للإعلام بمدارسه المتنوعة - خصوصاً الإعلام الغربي - وقد تضاعف هذا الدور وتنامى بفضل النقلة الحديثة لوسائل التقنية والتطورات النوعية المتلاحقة خصوصاً في مجال تقنية الاتصالات، وقد رأينا الكاميرات تثبت في مواقع الأحداث على مدار الساعة وتلقط وترصد كل حركة وسكون وتعكس نبض المجتمعات ووسائل الإعلام تحلل المواقف وأحياناً تصنع تطورات الحدث من وحي توجهها، كما أن العاصفة المعلوماتية التي يتعرض لها المتلقي لا تترك لديه مقدرة أو خياراً للرفض بل تجعله هدفاً وفريسة لتلك الوسائل ومن ثم يكون تأثيرها عليه فاعلاً.
وعلى الرغم من أن محتوى الرسالة الإعلامية قد يكون صحيحاُ في سياقه أو تنقصه بعض الدلالات والقرائن والمضامين.. أو قد يكون بحاجة إلى تدعيم حقائقه من الواقع أو ربما يكون فيه شيء من الاختلاق لكن قوة الآلة الإعلامية تجعل منه ذا تأثير في الاتجاه الذي تصوب نحوه بوصلة الإعلام.
الإعلام الدولي، في منظومته الجديدة، لا يغفل هذا النهج، بل يتبناه بكل وعي وبصيرة، ويعتمد في سلوكه هذا على القوة والتأثير والتكثيف ووضع المتلقي في مهب العاصفة الإخبارية، وما وراء الأخبار وتحليلها المتواصل، ويصبح المتلقي تماماً مثل من يكون مكبلاً وهناك من يلهب ظهره بالسياط ولا حول له ولا قوة على ردها.
من هنا تصبح القدرة على تزويد المتلقي بقدر واسع من المعلومات الجديدة والمنظمة في مختلف المجالات نقطة الانطلاق الأساسية لبناء قاعدة تأثير فاعل على المتلقي على مدار فترات البث، ولا تكتفي وسائل الإعلام بإغراق المتلقي بسيل من المعلومات التي تربك تفكيره وتشل مقدرته على التمييز والاختيار وحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك، بحيث تجعله يتبنى رأياً معيناً من خلال مواقف تتخذها وسائل الإعلام تبدو فيها أو تتظاهر من خلالها بأن موقفها يمثل الرأي العام «الذي صنعته غالباً».
التأثير القوي غير الخفي الذي يؤديه الإعلام، والذي أسهم في تغيير كثير من الأوضاع، وفي تعديل الخريطة، لا يتوقف عن حد معين، بل يتغلغل شيئاً فشيئاً من خلال محورين الأول: خلق تكوين معرفي لدى الجمهور حول قضية محددة، أما المحور الثاني فهو زحزحة التكوين القائم «السابق» وخلخلته لصالح الرأي العام الذي يريد الإعلام صناعته حول تلك القضية بناء على مواقفه المؤسسة مسبقاً.
فالإعلام أصبح يتطور كعلم وثقافة وتسويق وسياسة، فهو يقود السياسة اليوم وليس العكس، لأنه كثيراً ما يحسم قضايا ويحدد مساراتها، ويشعل حروباً ويحدد المنتصر فيها والمنهزم قبل أن تطلق فيها رصاصة واحدة.
إذن بالأفكار والخطط، والآليات والسياسات يستطيع الإعلام تغيير الخريطة وربما يسعى - وهذا موجود بشكل ملموس لدى الإعلام الغربي على وجه الخصوص - إلى تغيير لصالحه ولخدمة أهدافه، على الرغم من أنه يوظف لخدمة أهداف وأجندة الدول والجهات التي يمثلها، لكنه يوظف قناعات المتلقي لخدمة أهدافه القريبة والبعيدة.
بهذه التوليفة، وانطلاقاً من هذا المفهوم، برزت لدينا قنوات عربية فضائية إخبارية، مثل «الجزيرة» و»العربية» وغيرها من القنوات المشابهة، واستطاعت أن تخوض التجربة بنجاح ملحوظ، وأن تلعب دوراً واضحاً في حركة التغيير التي شهدتها بعض الأقطار العربية، وهي الفضائيات الإخبارية المتخصصة والتي لديها أطقم مراسلين محترفين وفاعلين ونشطين في مختلف المناطق التي تشكل مصادر للأخبار والمتابعة المستمرة، واستطاعت أن تضع بصمتها على خارطة الأحداث الإقليمية، وهذا التوجه جلب لها المزيد من المتابعة والمشاهدة، وزاد الطلب على الإعلانات، في دلالة واضحة على أن المعلن يدرك أن القنوات الإخبارية أصبحت ذات جاذبية ربما تفوق الفضائيات التي تعتمد على التسلية والفن والمسلسلات وغيرها من وسائل الترفيه.
إذن قدرة هذا النمط من الإعلام لم تتوقف عند حد التأثير على مجريات الأحداث على الخارطة السياسية والأمنية وحسب، بل تعدتها إلى تغيير الخارطة الإعلانية والتسويقية بحيث إن القادر على كسب ثقة المشاهد وجذبه لساعات أطول هو ذاته القادر على جعل المعلن يبحث عنه ويسوق منتجه - أياً كان نوعه - من خلاله، بل الوثوق به باعتباره الوسيلة الأسرع والأقوى في الوصول إلى المستهلك، وهذا زاد من زخمه، وعزز الحاجة إليه، بل اعتبر نموذجاً ناجحاً يُحتذى، وتجربة رائدة لمفهوم الإعلام المهني المتخصص الاحترافي الرصين، وهي تجربة ليست سهلة، بل تحتاج إلى إمكانيات متعددة ومتنوعة، وقدرات متميزة وكفاءات عالية، والمسألة حديثة بالنسبة للفضائيات العربية التي خاضت التجربة بنجاح، لكنها مشجعة للتوسع فيها إذا توفرت ذات الأدوات والأسباب والظروف.