تسعى المملكة العربية السعودية ضمن خططها الإستراتيجية الى تحقيق هدفين محوريين، من شأنهما أن يخطوبالاقتصاد والمجتمع السعودي الى آفاق واسعة من الاستقرار الاقتصادي من ناحية وإلى التطور والنهضة للوصول الى مصاف الدول المتقدمة من ناحية أخرى..
.. وهذان الهدفان كما حددتهما خطط التنمية الخمسية، وخاصة ما ركزت عليه الخطة التاسعة، هو توسيع الإيرادات غير النفطية.. إضافة الى بناء اقتصاد معرفي. ويتحقق الهدف الأول من خلال دعم القطاع الخاص، وتوسيع الفرص الاستثمارية في الدولة والمجتمع.. ويتحقق الهدف الثاني من خلال مؤسسات التعليم وخاصة مؤسسات التعليم العالي..
ولهذا فإن الدولة ممثلة في رأس الهرم السياسي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قد أخذت هذا المنحى من خلال إستراتيجيتين، هما (1) بناء الإنسان تأهيلا وتدريبا من خلال مشروع تطوير التعليم العام، ومشروع خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي؛ (2) دعم المشروعات الاستراتيجية للجامعات ومؤسسات التعليم العالي.. ويجب أن يكون هذان الهدفان متلازمين، لأن الإنسان السعودي عندما يكون مؤهلا ومتدربا لن يقوم بالدور المطلوب منه إذا لم تكن هناك بيئات تعليمية واجتماعية مناسبة..وفي أي مجتمع تبنى نهضة الأمم وتقدمها على العقل الوطني الموجود والحمد لله في كل مؤسسات المجتمع، ولكن الجامعات بالتحديد تحظى بأهمية خاصة في مشروع النهضة والتنمية.. ونعلم جميعا ان الدول المتقدمة لديها جامعات متقدمة.. وتلك الجامعات هي التي ساهمت في مشروع البناء والتطوير والنهضة الشاملة الى جانب مؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى.. ومادمنا في مرحلة إعادة تأسيس حقيقية نعيشها خلال العهد الزاهر للملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد وسمو النائب الثاني والتي تضع استراتيجيات نوعية في بناء نهضة المجتمع السعودي، فإن الجامعات هي مصدر الطاقة، ومنبع القوة والتي تحتاج الى مزيد من الدعم بما يحقق رسالتها التنموية..
ولو ألقينا نظرة على خصائص الجامعات الناجحة في الدول المتقدمة، لوجدنا مجموعة من الخصائص، ولكن يأتي من أهمها الدعم الذي تجده هذه الجامعات من مؤسسات المجتمع، والتقدير العالي في مخرجاتها المختلفة.. من كوادر وبحوث واختراعات وابتكارات وأدوار استشارية.. وعلى مر العقود الماضية وقفت جامعات عالمية في صدارة باقي جامعات العالم، ولم تتزحزح من قائمة الصدارة.. وهذه الريادة لم تكن لتوجد، ولم تكن لتستمر دون أن يكون هناك ثبات في الموارد الرئيسة للجامعة، تجعلها في مأمن من تقلبات الزمن، وتذبذبات الاقتصاد.. واستطاعت الجامعات العريقة ان تبني لها استثمارات وقفية هائلة، هي التي جعلتها في مقدمة ركب الجامعات..
وكالعادة تتصدر جامعة هارفارد الأمريكية جامعات العالم في حجم وقيمة الأوقاف الجامعية لهذه الجامعة، حيث وصلت في احصائيات أخيرة (عام 2010) الى اكثر من 27 مليار دولار، أي ما يعادل مائة مليار ريال سعودي.. وهذا الرقم يعادل ميزانية سنوية للعام 2011 لأربع دول عربية هي الإمارات وعمان والبحرين والأردن.. وقبل الأزمة المالية كانت القيمة السوقية لأوقاف جامعة هارفارد تصل الى 37 مليار دولار عام 2008، بما يعادل ميزانيات مجموعة اكبر من الدول العربية.. والجامعات التي تلت هارفارد هي جامعات ييل (16.7 مليار دولار)، برنستون (14.4)، ستانفورد (13.9)، إم أي تي (8.3)، متشجن (6.6)، كولومبيا (6.5)، نورث وسترن (5.9)، تكساس أي أند إم (5.7)..
ومن بين أكبر الجامعات في القيم الوقفية (احصائيات 2008) تسع جامعات أمريكية تبقى في العشر الأولى، وتدخل في الترتيب العاشر جامعة اوكسفورد البريطانية بحوالي ستة مليارات دولار.. أما على مستوى افضل 25 جامعة في العالم، فمعظمها أمريكية، ولكن سجلت اليابان حضورا بجامعتين هي جامعة طوكيو (ترتيب 19) وجامعة كيوتو (ترتيب 23). كما سجل معهد التكنولوجيا السويسري المرتبة 24، وتلاه في المرتبة الخامسة والعشرين جامعة تورنتو الكندية.
اما جامعات المملكة فلا تزال في بدايات مشروعاتها الوقفية، وتتصدر جامعة الملك سعود مقدمة الجامعات السعودية بقيمة أوقاف وصلت الى اربعة مليارات ريال، بما يعادل 1.07 مليار دولار.. وإذا وضعنا جامعة الملك سعود ضمن قائمة افضل مائة جامعة أمريكية في حجم الأوقاف، لأمكن لها بقيمة اواقافها الحالية أن تحتل المركز 57، تلي جامعة سوثرن ميثودست، وتسبق جامعة كانساس. وهذا يعكس أن جامعة الملك سعود هي في طريقها الى تسلق مراتب جديدة عندما تتمكن من رفع حصصها الوقفية..
وإذا وضعنا سياق الأوقاف الجامعية في السياق الوطني لمشروع التنمية في المملكة، سنجد أهمية بالغة في توجه الدولة حاليا في دعم الجامعات.. فنظرا لاهتمام الدولة بالتحول نحو مجتمع معرفي، فهي تجد لزاما عليها ان تقدم كل سبل الإمكانيات للجامعات، لأنها الطريق الى تحقيق مثل هذا المجتمع.. فمجتمع المعرفة او أحيانا مجتمع المعلومات هو نتيجة الثورة المعلوماتية التي اجتاحت العالم وقسمته الى قسمين، قسم منتج وقسم مستهلك.. والدول التي تنتج هي التي تقود العالم، والدول التي تستهلك فقط هي على هامش العالم.. وبناء اقتصاديات الدول العظمىحاليا يعتمد على اقتصاديات المعرفة والمعلومات.. وتلعب الجامعات والمؤسسات التعليمية دورا محوريا في بناء وتوجيه هذه الثورة أو الثروة المعرفية والمعلوماتية وتوظيفها في خدمة الاقتصاد والمجتمع المحلي..
ولهذا فإن خطة التحول التي أشارت إليها الخطة الخمسية التاسعة لن تتحقق الا من خلال الجامعات ومؤسسات ومراكز الابحاث.. ودعم الجامعات السعودية وبسخاء سيحقق البيئة البحثية والتعليمية المطلوبة نحو التحول الى مجتمع معرفي.. وهناك جانب آخر مهم في هذا الدعم، وهو أن يتوجه كذلك الى الأوقاف الجامعية بسخاء أكبر، لأن ذلك يحقق استقرارا ماليا للجامعات على المدى البعيد.. كما يصب في هدف الدولة الاستراتيجي في بناء موارد جديدة في المجتمع تخفف من الاعتماد على الجامعات في المستقبل البعيد..
* رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية
alkarni@ksu.edu.sa