السياسة في عالم المسلمين هي إرادة ملك وتنفيذ وزير محاطة بسياج الشرع؛ ولذلك يتكلم الناس في المجتمع المسلم بالنظريات والأطر الشرعية لتكوين الفكر الشرعي السليم لدى ملوك المسلمين، ويتكلمون عن وسائل التنفيذ ونوافذه ومنافذه للتأثير في أداء الوزير نحو الأفضل، وهناك في الأفق علماء الشرع يحيطون تلكم السياسة حتى لا تخرج عن مسارها الذي أراده الله لهذه الأمة المكرَّمة على جميع الأمم؛ لذلك فإن ولي العهد ونائب الوزير هما شخصان كريمان يقومان مقام الملك والوزير في حال التفويض أو التغييب، والمقصود أننا في هذه المرحلة التي أعتقد جازماً أنها متى دُوِّنت بأيدي مؤرخي مملكتنا الغالية فإنها ستكون حقبة زمنية تتذكرها الأجيال القادمة، ويستحثون بها ملوكهم ليتخذوا من تلكم الإرادة الكريمة منهاجاً يُحتذى به.
لقد جاء ابن عبدالعزيز ليكمل مسيرة مؤسس سار على منهاج النبوة؛ فجاهد ليوحد الناس لرب واحد، ويتبعوا نبياً واحداً، وتتقلد عناقهم بيعة واحدة لإمام يعرفون ديانته وأمانته وشجاعته وحنكته، وها هو الابن البار يحمي حمى التوحيد، ويقول: «إن ملك القلوب هو الله»، وتواضع فارتفع فقال أنا «خادم البيتين»، ثم حمى العلم والعلماء، وأظهر سياج الأدب الذي لا بد أن يُحاط به أهل العلم والإيمان، ثم أغدق على رعيته بالأموال التي يشرئب إليها قارون لو كان حاضراً ليرفع المستوى المعيشي ويحمل الناس على التجمل والقيام بالواجبات الشرعية التي أوجبها الله عليهم من النفقة والصدقة وفعل الخيرات وسداد الديون.. وليس من أجل الترف الذي هو سبب هلاك الأمم. فلما كانت هذه أفعال هذا الخادم المليك الموقر في صدور رعيته فيبقى ظهور هذه الأمانة العظيمة إلى حيز الوجود مربوطاً بحسن تنفيذ الوزراء المفوضين الذين أُعطوا من الصلاحيات والأموال والمناصب والموظفين والمعاونين والمستخدمين الشيء الكثير حتى عرفنا بالبطالة المقنعة لكثرة موظفي الدولة في المكان الذي يكفي فيه بعضهم، فهل سيقوم الوزراء بعملهم على أسس العلم والعدل؟ وهل يستطيع الوزراء أن يرتقوا إلى مستوى ثقافة المسلم الواعي الذي يأنف من كلمة «نحن أعلم منك» أو «نحن أدرى»؟ لأننا في عمل إداري بحت، ولسنا في أرض معركة مع عدو يستوجب الحال التورية والكتمان.
من السهل جداً لمبتغيه أن يرى بأم عينيه انتدابات لموظفين لأعمال ليست من اختصاصهم أصلاً، وأبعد من ذلك أن تجد أصحاب العلم والعمل والأدب تختزل حقوقهم بحجة «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، وتجد اللسن منزوع الحياء يأخذ حقه وافياً بل ربما أخذ حق غيره، وهذا كثير، وعندما تراجع المسؤول عن ذلك فستجد تبريرات هزيلة ليس لها أي علاقة بمصلحة العلم ولا برحمة العامل بل هي أنواع من الخور والضعف وسوء الإدارة والتقدير.
من المعلوم أن المسؤول ربما احتاج إلى تجاوز جمود النظام لتحقيق مصلحة العمل أو الرفق بالعامل، وهذا معروف مشهود حسنه في الشرع أصلاً. فالموظف بل الوزير لو خالف مفردة من مفردات النظام من أجل تحقيق أصل من أصول النظام، وكان سبب هذه المخالفة صعوبة التوفيق في ظرف يُقدِّره من أُعطي حق التفريد الإداري، فإن هذا ظاهر الحسن، والعكس صحيح، فلو أن وزيراً أو موظفاً تمسك بمفردة من مفردات النظام يكون بهذا التمسك سبباً في انهيار المنظومة في وقت معين أو مكان معين، ولاستحق هذا الوزير أو هذا الموظف اللوم، ولهذا نظائر كثيرة في الشرع والنظام؛ لذا لا بد أن يتميز ذوو المراتب العلياء بفَهْم النظام جيداً من حيث منظومته ومن حيث أفراده وإلا كانوا سبباً في هدر الأموال والجهود وأذية الخلق، وهذا هو الواقع المشهود، فإن هناك من ذوي المناصب العلياء - وأرجو أن يكونوا قلة، أرجو! - لا تجد لديهم الوعي الكافي بإرادة الملك أو إرادة الدولة أو بمنظومة النظام الذي هو موكل بتطبيقه، بل حتى مفردات النظام فإن منهم من لا يعي حقيقة المفردة وكيف ولماذا وُضعت.. ولكي نستوعب هذا التقعيد المنقبض فلنتأمل هذا الواقع المرير في مدير مدرسة ووكيل ومُعلِّم يقومون بضرب الطالب أو التضييق عليه بحجة جهله أو قِلّة أدبه أو مشاكسته أو انحرافه، فيجعلون من التخلص منه طريقاً لإنجاح الحراك العام للمدرسة؛ ما يعني أنهم لا يريدون من الطلاب إلا المؤدبين الخلوقين ذوي الأسر المتعلمة الذين ضُرِب عليهم الهدوء فلا يتكلمون إلا همساً ولا يبصرون إلا خلسة.. ونسي هؤلاء أو تناسوا أن المقصود من بناء مدرستهم وتعيينهم وصرف الرواتب عليهم هو أن يُعلِّموا الجاهل ويؤدبوا المسيء، لا أن يقوموا بطرده أو التضييق عليه أو تحطيم نفسيته أو التلذذ بعقابه أو منافسته في صبوته؛ فالمدرسة كما هي موطن العِلْم والأدب فإنها في الوقت نفسه مسرح الأبناء ليفرزوا سلوكياتهم وفق ما انطوت عليه أنفسهم مما تلقوه من تعليم وأدب خارج المدرسة؛ حتى يمكن تعزيز الصحيح منها وتقويم الخطأ.
إن المعلم الموفَّق الذي يعي دوره بوصفه معلماً لا بد عندما يواجه شاباً منحرفاً أو مشاكساً أو لديه صعوبة في الفَهْم أن يكون هاجسه معرفة الطرق التربوية المؤدية لإصلاح هذا الشباب؛ حتى يخرج من التعليم العام عنصراً فاعلاً في بناء نفسه وأهله وأمته ووطنه، ولا يكون همه كيف الطريق للخلاص منه، وكذلك في عالم الوظيفة فإن التحفيز الوظيفي لم يوضع لمن يصرخ في كل واد، ولا لقريب يقتات بالنسب أو المصاهرة، بل وضعت المحفزات من أجل مصلحة العمل، ولكي يتنافس في تحصيلها المتنافسون العاملون الشرفاء.
إن الأمثلة للخلل الإداري الذي يضفي ببشاعته على سلوك الموظفين فيحمل رقيق الإيمان منهم على خيانة دينه ووطنه ومليكه وخيانة نفسه بالرشوة أو التسيب عن العمل أو خَلْق التحزبات داخل الإدارة الواحدة لتبادل المصالح منها الشيء الكثير في جعبتي، ولكنه لن يكون أكثر مما هو في جعبة القارئ الحاذق.
وفَّق الله الملك والوزير والموظف لكل ما فيه بناء دولتنا؛ لتكون في مقدمة الأمم علماً وعملاً وهيبة.