كان قادة الجمهوريات العربية بلا استثناء يتذرعون لإبقاء ديكتاتورياتهم ونهبهم لشعوبهم بحجة مناصرة القضية الفلسطينية؛ قتلوا شعوبهم، سحقوهم، سجنوا شبابهم، أذاقوهم كل أنواع الذل والمهانة، باسم نصرة القضية، والممانعة، والصمود والتصدي والعنتريات التي ما حررت شبراً قط. كانت (مناصرة) القضية الفلسطينية حجة من لا حجة له، وذريعة لإبقاء قوانين الطوارئ لجلد كل من قال (لا)، وأفضل السبل في نهب الشعوب، وتكميم الأفواه، وتنمية السجون والمعتقلات لا تنمية الأوطان. والغريب أن تجد من بين العرب من يُصدق هذه الأعذار المكشوفة. وعندما انتفض السوريون مطالبين بالحرية والمساواة والتوزيع العادل للثروة، وقف قوميو عرب الشمال وبالذات اللبنانيون منهم، وحزب الله، والإيرانيون، من انتفاضة الشعب السوري موقفاً يندى له الجبين. لقد كشف حسن نصر الله أنه ومعه حزبه (حزب المقاومة كما يدّعي) ليس إلا فصيلاً عميلاً صغيرا يُنفذ سياسة ملالي إيران، ويمرر أجندتهم السياسية إلى الداخل العربي؛ وكنت أقول وأكرر وما أزال : ما علاقة الفرس بمشروع النهضة العربية؟ .. ولو كنت سورياً أتجرع الذل والقمع والهوان والفقر من هذا النظام السوري لقلت: غبي ومغفل وأحمق من يقبل أن يدفع حريته ثمناً لكي (يقاوم) الآخرين؛ وهل من يقبل بخراب وطنه، بإمكانه أن يُعمر وطن غيره؟
ثم ماذا جنت القضية الفلسطينية من أنظمة القوميين العرب إلا الخراب؟
عبدالناصر سَكَرَ ضباطه حتى الثمالة في ليلة حمراء عندما تحركت جيوش إسرائيل في الليلة ذاتها عام 1967 م لتجتاح سيناء دونما مقاومة تذكر، وتقف على الضفة الشرقية للقناة؛ وكان بإمكان الإسرائيليين - بالمناسبة - أن يستمروا حتى آخر شبر في الأراضي المصرية، وربما التهموا السودان أيضاً، لولا حساباتهم السياسية.
صدام حسين، أو كما يُسميه القوميون (سيف العرب)، اجتاح الكويت محاولاً سرقتها، بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت بسبب فشله الذريع في التنمية الاقتصادية بعد أن قارب على الإفلاس، رافعاً شعار: (تحرير القدس يمر بالكويت)؛ فانتهى إلى حبل المشنقة، والعراق إلى الاحتلال.
الجولان باعها البعثيون السوريون لإسرائيل لكي يسمح الإسرائيليون ومن وراءهم الأمريكيون وكذلك السوفييت آنذاك أن يبقى حافظ الأسد في الحكم، ويورثه من بعده لأبنائه، وربما لأحفاده أيضاً؛ وظلَّ الجيش العربي السوري حارساً أميناً يحرس الجولان المحتل من كل من تسول له نفسه التسلل ليقاوم إسرائيل. تخطى وريث عبدالناصر (معمر القذافي) كل حدود العقل والمنطق والسياسة والكياسة والرصانة، وسامَ الليبيين كل صنوف العذاب والذل والمهانة؛ قتل شبابهم، واستعبد نساءهم، وسجن شيبهم وشبابهم، ونهب ثرواتهم وبددها في مشاريع حمقاء على ثورات العالم؛ بل حتى أطفال ليبيا لم يسلموا من سجونه ومعتقلاته وتعذيب أجهزة مخابراته؛ وعندما انتفض الليبيون يطالبون بالعدل والإنصاف والحرية والتنمية، لم يناصرهم ويقف معهم ويحميهم من دبابات العقيد وراجمات صورايخه ومرتزقته إلا (الغرب)، ومعهم الخليجيون العرب، الذين هم في أعراف قوميي عرب الشمال امتدادٌ للغرب الإمبريالي، أو كما يسمونهم: منفذو أجندة الغرب الاستعماري، ورمح التآمر معه.
أين عرب الشمال عن نصرة الليبيين؟ .. كانوا ربما مشغولين عنهم بنصرة (دولة) المقاومة والممانعة وقلب العروبة النابض سوريا الأسد، من (مؤامرة) الغرب الاستعماري وربيبته إسرائيل، ومواجهة (المندسين) وإفشال أجندتهم! .. ولو كنت ليبياً وطنياً لانصرفت أجذر علاقاتي، وأقوي وشائج مصالحي، مع من وقف معي في محنتي لا من خذلني، وتركت عني (خزعبلات) القوميين العرب وشعاراتهم الجوفاء؛ فقد ثبت الآن أن القمع والتخلف الاقتصادي من جهة والنظم القومية (العروبية) من جهة أخرى وجهان لعملة واحدة. لقد عرّت الأحداث الأخيرة ما تبقى من (صدقية) للفكر القومي العربي، وكشفت تفاهة وسخف وتخلف القوميين العرب بجميع أطيافهم؛ وثبت الآن أن نصرة القضية الفلسطينية في قاموس العروبيين كانت فعلاً كما كان قميص عثمان وأصابع نائلة في تاريخنا لا أكثر.
إلى اللقاء.