كنت ولازلت أعتقد أن طريقة بناء منازلنا الحديثة صورة مكبرة لما هو الحال في عقولنا، فالمنازل في المدينة ترتفع حولها أسوار عالية، ويعلو فوقها أحياناً أسوار أخرى من البلاستيك، تجعلها أكثر ممانعة وأكثر خوفاً من عيون الآخرين، كذلك هو حال ما يحدث داخل عقل ذلك الإنسان الذي يصعب في أغلب الأحيان اختراق حصونه العالية، فالعقل عنده مقسم إلى غرف عديدة، تفصلها جدران سميكة، وتحرسها أفكار مسلحة بكلمات في غاية التطرف ضد ذلك الذي يحاول أن يُدخل النور إلى تلك الغرف المعتمة، ويظهر ذلك بوضوح في الكلام المتشنج الذي نسمعه من البعض أحياناً تحت شعار حماية المجتمع من الأفكار الدخيلة أو من التغريب.
تفسر تلك الرؤية ما يحدث من مواقف حادة ضد نقل العقل الديني، أو عندما يحاول أحد ما تشريح الموروث التاريخي للأمة المختزل في أقوال وأفعال رموزها في القرون الأولى، وذلك حسب وجهة نظري إحدى أهم خطوات الخروج من التابو، ويخطئ البعض كثيراً عندما يقدمون الموروث على أنه صورة مثالية ونقية من الشوائب والأخطاء، ثم وضعه في موقع المقدس الذي لا يمكن أن يخضع للنقد أو التشريح، ما أوقف حراك الفكر النقدي عند المسلمين، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه لدعاة القطيعة مع الماضي، بسبب الخوف من نبش الماضي وتحريك الساكن لأكثر من عشرة قرون.
يُرجع الفكر العالمي منهج نقد العقل المجرد إلى الفيلسوف الألماني إمانويل كانط (1804م)، الذي استطاع أن يُحدث انعطافاً فلسفياً حاداً في تاريخ الفكر الأوربي، من خلال مشروعه الضخم (نقد العقل المحض)، عندما قدَّم منهجية صارمة في عملية النقد ثم نقلها من نقض المسائل والمقولات والمذاهب، إلى تحليل العقل ذاته المنتج لتلك المقولات والمسائل، لكن تاريخ المسلمين في بداياته وبعد أول فتنة في تاريخهم كان أيضاً حافلاً بخروج طبقة مثقفة تحاول تقديم منهجية نقدية للأقوال والأفعال والأفكار، لكن ما يُحزن أنها انتهت تماماً في ذلك العصر بسبب استخدام سلاح التكفير في غير موضعه..
يذكر تاريخ علم الكلام الحوار الشهير بين مفكرين من أقطاب المعتزلة في القرن الثامن الميلادي، هما أبو الهذيل العلاف (751-842 م)، وابن أخته إبراهيم بن سيار النظام (799-853 م) حول ما كان يُعرف في التراث الإسلامي بـ»الجوهر الفرد» أو «الجزء الذي لا يتجزأ»، ومن خلال رؤية معاصرة تعتبر تلك المحاورة البذرة الأولى للفيزياء النووية والذرية الحديثة.. لكن تلك البذرة تم تكفير من يرددها، وكان الشاب إبراهيم بن سيار يعتقد أن الجزء قد يتجزأ إلى مكونات أصغر، وكان أيضاً قد بدأ حركة نقدية للأقوال والأفعال التي تخالف المنهج الإسلامي، وتم خنق تلك الحركة العلمية والنقدية في المهد بعد انقلاب المتوكل وبيانه الشهير ضد التفكير العلمي والفلسفي الحرّ. ما يجري في العصر الحالي هو نتاج إجهاض تلك المرحلة الذهبية، فالجمود أخرج لنا أسلمة شكلية للسلوك والمنهج، أو أشبه بامرأة تغطي وجهها بالكامل وتلبس دون ذلك زياً غربياً فاضحاً، أو مثل رجل ملتح ويحف شاربيه ويعمل موظف استقبال في منتجع سياحي على الطريقة الغربية، أو في عالم دين يبصم بالإبهام على مصادقة معاملات مالية هدفها بيع الوهم للمسلمين، وما أود الوصول إليه أن قرار تجميد نقد الموروث ووضع الأفعال والأعمال في موازين المقاصد الكلية أفرغ الإرث الإسلامي من مضمونه، وأبعد الناس عن التفكير من خلاله، لتختفي الخطوط التي بين الصالح والفاسد، ويصبح الماضي بكل أقواله وأفعاله وأحداثه وصراعاته مصدراً لتشريع الصلاح والفساد..
لا يمكن الوصول إلى حالة التوفيق بين التراث والحداثة إلا عبر الفكر الحر ومنهجية النقد البناء، وذلك لوضع ميزان دقيق لكثير من الأفعال والأقوال التي لا زالت تُعتبر في حكم المقدس، وقد تؤدي الممانعة ضد النقد المنهجي إلى هرب الأجيال الجديدة عن الهوية الحضارية، وإلى تبني هويات أخرى تقبل ثقافة النقد والشفافية وحرية الرأي، ولعل السؤال الذي دائماً ما يؤرقني: هل أفعال كل السابقين تعتبر جزءاً من الدين أم أنها اجتهادات شخصية قد تعتبر في حكم الفاسد إذا خالفت مبادئ الدين ومقاصده الحنيفة؟ ولكن هل بقي في الزمن متسع من أجل إحياء عقل (إبراهيم النظام) من جديد، أم أن الزمن تجاوز مرحلة النقد الذاتي، وأن لا بديل عن استيراد كل شيء.. فاسداً أو صالحاً، بعد أن يُطبع على غلافه موافق للتعاليم الإسلامية.