من الأشياء الظاهرة في أيامنا السرعة في قيادة السيارات، وهي سرعة خسرنا بسببها آلاف الأرواح وملايين الممتلكات، ويتَّمت الأطفال، ورمَّلت النساء، وأعاقت الشباب والرجال.. والسرعة في الطبخ؛ فقد خرجت لنا مأكولات عديمة النفع، عسيرة الهضم، غالية الثمن، وسموها حماقة وجهلاً بـ(مأكولات الوجبات سريعة).. والسرعة في القراءة؛ فلم نستفد منها شيئاً، وتردَّى مستوى الدارسين لغة في القراءة والكتابة، وانتشرت الأخطاء، وشاعت حتى التبس الخطأ بالصواب، وضعفت لغة التخاطب والتأليف.
ورأينا السرعة في الكتاب (باليد) أو بالآلة؛ فرأينا أخطاء من الكبار كنا نستحي منها ونحن صغار في المرحلة الابتدائية.. ورأينا الموظف (الكبير) صغيراً في إنشائه وتعبيره نُطْقاً وكتابة!..
ووصلت السرعة إلى الصلاة؛ فرأينا مَنْ يُصلِّي أربع ركعات في زمن لا يكفي لركعة واحدة، وصارت صلاة بعضهم كنقر الغراب، لا يطمئن فيها، ولا يعي من أركانها وسننها شيئاً، المهم أنه (أدَّى) الصلاة، واستراح منها! وهو حينما يسرع في صلاته يخرج من المصلَّى، لماذا؟!.. إنَّ كثيراً ممن يسرعون في صلاتهم ولا يطمئنون فيها يمكثون الساعات الطوال في فضول القول والنظر، ولربما جلسوا في مجالس لا يُذكر الله فيها، وكل ما فيها إثم وغيبة وسوء؛ فيحرمون أنفسهم لذة العبادة؛ ليرجعوا إلى لهو ولغو وإثم كبير!..
وهل السبب في تلك الأنواع من السرعة أننا في عصر السرعة، وأن الدافع هو حب الإنتاج والعطاء؟.. كلا، فإن حساب الربح والخسارة يُعلمنا أننا خسرنا أضعاف ما ربحنا، وأن الوقت الذي نريد أن نغتنمه بسرعتنا يضيع عمداً فيما لا يفيد، وكم خسرنا من ساعات وأيام فيما نندم عليه من قول أو فعل.. فضاع الوقت، وجاءتنا مصائب لم نحسب لها حساباً، وقديماً قالت العرب: «رُبَّ عجلة نهب ريثاً».. فمتهور يسرع بسيارته قد يُفاجأ بما يؤخره ساعات طويلة بسبب حادث مروري أو عقاب نظامي أو غيرهما.
وفي عصر السرعة هذا رأينا كسلاً وخمولاً وضعفاً في الإنجاز، ورأينا البطء في التنفيذ في جوانب كثيرة، من أهمها: تنفيذ المشاريع الحكومية؛ فالمشروع يحدَّد له خمسمائة يوم، ويُنفَّذ في ألف يوم - إن قلَّت - والطريق يبدأ فيه المقاول ثم يمشي مشي السلحفاة، وتمرُّ السنة والسنتان وأنت تراه في كل شهر يشتغل يومَيْن أو ثلاثة فقط، ويظل المشروع معلَّقاً و(التحويلة) المؤقتة تصبح هي الطريق الرئيسي حتى تمضي خمس أو سبع سنوات، ويصفو (مزاج) المقاول لإكمال المشروع.
ونحن في عصر السرعة رأينا إنارة الطرق تتعطل وتمكث شهوراً دون إصلاح، ومَنْ الملام؟ لا ندري سوى أننا في عصر السرعة.
ونحن في عصر السرعة رأينا الحَفْر في الطرقات بسبب المياه أو لتنفيذ وصلات ماء أو صرف صحي أو كهرباء، ثم تمكث شهوراً أو سنوات دون إصلاح، ومراقب البلدية يعيش في عصر السرعة!
ونحن في عصر السرعة يمكث البريد بين مدينتَيْن من مدن بلادنا لا يفصلهما سوى مائة أو مائتي كيلو لا يصل البريد العادي أو الرسمي إلا بعد أسبوع!
عجيب أمرنا.. وبقيت الطامة، وهي حينما يراجع مريض بعض المستشفيات، وبخاصة مرضى القلب والعيون والأعصاب، فيُعطى موعدٌ بعد ثمانية أشهر، ونحن في عصر السرعة! وعلى المريض أن يوقف المرض والآلام بجهوده الذاتية حتى يأتي الموعد!
وكم نعدد.. ولكني أختم بأن أذكر أن لي معاملات في بعض الدوائر الحكومية قد مكث بعضها شهوراً عديدة لتخرج من مكتب إلى آخر، و(يتفرغ) سعادة الموظف لقراءتها ويحوِّلها إلى مكتب آخر، تمكث فيه شهوراً أخرى.. وعاشت السرعة.
أيها الناس: أسرعنا في قيادة السيارات، وفي الكتابة والقراءة، وأداء الصلاة؛ فلم نُحقِّق غرضاً، ولم نقم صلاتنا كما أمرنا الله.. ولكننا في جوانب حياتنا الأخرى نعاني بطئاً وإهمالاً وتأجيلاً وتضييعاً، أرى أنه السبب في تقدم الشعوب الأخرى وتأخرنا، ونجاحهم فشلنا؛ فهل نعي الدرس ونُصلح الخلل؟.. لعل وعسى.