كثيرًا ما نكتب عن دور القطاع الخاص في النشاط الاجتماعي والثقافي لدينا، ويزداد سخطنا حين نقرأ في نهاية كل سنة مالية الأرقام الفلكية في ميزانيات البنوك التجارية، والأرباح الهائلة، ورؤوس الأموال التي تتفوق لدى البنك الواحد على ميزانيات بعض الدول، اللهم لا حسد، بل بالعكس نشعر بالغبطة والسعادة أن تكون ميزانيات بنوكنا بهذا الشكل، لأن ذلك يعني أن لدينا اقتصادا وطنيا قويا ومتينا، وأننا ضمن الدول العشرين المتفوقة في اقتصاديات العالم الكبرى. فالاقتصاد اليوم هو ما يتحكم بقوى العالم سياسيًا واجتماعيًا.
لكن المحبط في الأمر، أن هذه البنوك التجارية باقتصاديتها الكبيرة، وقدراتها الهائلة، لا تريد أن تكون جزءًا من المجتمع، تشعر بطموحاته، وتقدم له الشكر والامتنان عبر دعمه، خاصة أن هذه البنوك لم تكن لتنهض وتتفوق ما لم يكن أساسها وعمودها المواطن بإيداعاته وعملياته البنكية اليومية، فما الذي يجعل هذه البنوك بقيت سنوات طويلة جدًا دون أن تبادر يومًا لعمل شيء يحسب لها، حتى على المستوى الإعلاني والدعائي؟.
على سبيل المثال، وقد عدت مؤخرًا من تونس الخضراء، تونس التي تمتلك شعبًا تقوده العزة والإباء والكرامة، هذه البلاد تحتضن جائزتين كبيرتين في مجال الأدب، الأولى هي جائزة أبي القاسم الشابي التي يدعمها أحد البنوك التجارية على مدى ربع قرن، كل ما فعله مالك هذا البنك، الذي يؤمن بالثقافة والأدب، وأنها تطوِّر الشعوب وتقودها إلى المستقبل، فقام بالتنسيق مع مثقفين وأدباء بإنشاء الجائزة، ووضع لها أمانة ولجان تحكيم من نقاد وأكاديميين وأدباء، وبإشراف وزارة الثقافة التونسية، فأصبحت من منجزات الوطن العربي على مستوى الجوائز الأدبية، وبالتالي انتقلت سمعة هذا البنك وطارت شهرته، ليس على مستوى تونس فحسب، بل حتى على المستوى العربي. أما الجائزة الأخرى، فهي جائزة كومار التي تختص بالرواية التونسية المكتوبة بالعربية أو الفرنسية، تلك الجائزة التي أصبح عمرها خمسة عشر عامًا، ومن يدعمها؟ تدعمها شركة تأمين كبرى في تونس، أي قطاع خاص، ذلك القطاع الذي يصبح متفتحًا وهو يمنح مثل هذا الدعم، ويسند هذه المهام للأدباء والمثقفين، لأنهم الأعرف بهذا المجال.
طبعًا لا يمكن أن نغفل دور بنك الرياض هنا، الذي قرر منح جائزة كتاب العام، والتي يشرف على هذه الجائزة، لكنه لم يفكر إلا في المبلغ المدفوع فقط، بينما تكاليف الجائزة ولجانها وطرق طرحها في المشهد الإعلامي لم تحقق الغاية المنشودة، وهو الأمر الذي حدث مع جائزة حائل للرواية السعودية، والتي كنت أحد أعضاء لجنة تحكيمها، بل سعدت بها كثيرًا، وشعرت أننا وضعنا اللبنة الأولى في الطريق الصحيح، لكنها للأسف ذابت وتفرّق شمل القائمين عليها، لأن الأمر ببساطة تم تركه لناد أدبي، بينما الصحيح، وقد قلته للإخوة هناك، إن الجوائز تحتاج إلى أمانة عامة للجائزة، ولجنة عليا، ولجان تحكيم مختلفة تقررها اللجنة العليا... وهكذا.
ماذا لو حدث أن بادرت البنوك وشركات التأمين بإنشاء جوائز أدبية، وحين أقول أدبية، فأنا أعني ذلك، خاصة أن جوائزنا الموجودة هي دائمًا جوائز علمية، وكأنما الثقافة والآداب والفنون أمر غير مستحب لدينا، أو أمر مرفوض، مع أن الثقافة هي بوابة أي شعب في التاريخ الإنساني، ومصدر اعتزازه، لا حالة ازدراء ونبذ كما يحدث الآن.