قال أبو عبدالرحمن: لا تكاد توجد فلسفة للحرية في تراثنا الفلسفي والكلامي إلا في مسألة القضاء والقدر، وأكثر ما كان علاجها بمقاصد الشرع، وباختلافٍ في الفهم في العقل الإنساني المشترك بين مذاهب أهل القبلة؛ وإنما كانت الحرية فلسفة معقَّدة في الفلسفة الحديثة، وكانت هذه الفلسفة على ثلاثة أنحاء: النحو الأول فلسفة غير معيارية أمام القضاء والقدر؛ فمنها ما كان احتجاجاً ومناحة عمَّقت عقيدة الإلحاد، ومنها تحدٍّ بالسلوك الأرعن، والسعي الحثيث إلى العدمية كما في التفلسف الوجودي.. والنحو الثاني فلسفة غير معيارية ألغت حق الرب سبحانه، وجعلت الحرية للشهوات والشبهات.. والنحو الثالث فلسفة غير معيارية جعلت للحرية معنى وضعياً غير معناها في اللغة والعُرْف العام.
وقد كُتبت عن الحرية كتبٌ مستقلة مطولة، وكل هذه الكتب والفصول ذات تعقيد وإملال بالاستطراد مع الاستعانة بالإغراءات الخيالية الشعرية من الرواية والقصة والشعر؛ ولهذا اكتفيتُ بالتلخيص من كتب الاصطلاحات الفلسفية إلا في حالات أضطرُّ فيها إلى مراجعة بعض المصادر الفلسفية، وظهر من عموم السياق أن هناك تفلسفاً حول ما يُسمُّونه (قَهْر الطبيعة) الذي هو حتمياتُ قدر الله الكوني، وذلك التفلسف أمانيُّ محالةٌ تعادلُ (لَيْتَ) في النحو العربي.. وفي كتب الفلسفة جدل عقيم يُصاب صاحبه بالدُّوار، ويجعل الحريةَ مسألةً مشكلةً متعذِّرة الحل؛ وسبب ذلك الخلط بين الظواهر والحقائق، ولكنَّ من أَحْكَم نظريَّة المعرفة بعقلٍ رياضيٍّ مُسْتكْثراً من الخبرة الحسية مشاهدةً وقراءة: فإن مفتاحه الأول استيعاب ما هو (حَتْميَّة) في حياة الإنسان، راصداً مدى الحتمية فيما يوصف بأنه حتمي؛ ومن ثَمَّ يتجلَّـى له بوضوح نقيضُ الحتمي الذي هو الحرية، وعلى هذا المبدإِ المنطقي أتعامل بإنصاف مع أقوال الفلاسفة غيرَ عابئ بالتاريخ الزمني لكل فيلسوف.. ومن أساطين الفلسفة العقلية(1) لايبنتز (جونفريد فلهم) الفيلسوف الألماني [1646 - 1716م]؛ فقد ذهب إلى أن الحرية هي موافقة أعمالنا للعقل، وأن العبودية [وهي نتيجة الحتمية](2) هي خضوع أعمالنا لأهوائنا.. ثم أرْدف بتفسير مقتضى العقل بأنه التوافق بينه وبين كمال طبيعتنا، ووصَف ربنا سبحانه وتعالى بالحر(3) الكامل، وقَيَّدَ حريَّة المخلوقات العاقلة بالخلوص من الهوى.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا وقفات:
الوقفة الأولى: أن (لايبنتز) مؤمن بالله إيمان الربوبية، ومؤمن بالله إيمان الكمال والتنزيه على منهج ديكارت؛ مِـمَّا يقتضي تصحيح ما قد يجده من مأثوره الديني الذي ينافي وحدانية الكمال والقدسية؛ ذلك أن برهان العقليين على وحدانية ربنا سبحانه وتعالى هو برهان الكمال الذي طوَّروا به برهان أنِسْلَم الأُنطُولوجي.
والوقفة الثانية: بمقتضى الوقفة الأولى يلزمه أن يجعل التوثيق التاريخي والتوثيق الدلالي للنص الشرعي هاديين لعقول المخلوقات؛ لأن ذلك مقتضى وحدانية الله سبحانه وتعالى في الكمال والقدسية، وبهذا يكون اتباع الهوى هو ما خالف اليقين أو الرجحان في المعرفة الشرعية والمعرفة البشرية - بباء قبل الشين، وبدون عين مهملة بعد الراء -.
والوقفة الثالثة: أن تفلسف لايبنتز مقصور على أعمال المخلوقات العاقلة، وواقع المشاهدة أن كل المخلوقات تملك حُرِّيَّاتٍ في أعمالها كبناء العنكبوت بيتها، وكاشتيار النحل ما تستخرج به قرص العسل.. ومن واقع الشرع القطعي أن الله أعطى كل شيئ خلقه ثم هدى؛ فذلك مِنْحةُ الله من القدرة والاختيار؛ وذلك معنى الحرية.
والوقفة الرابعة: أن الحرية هي ما لم تمنع منه الحتمية؛ فلا حرية لمن لا يملك الاختيار بين أمرين أو أمور، ولا تتم حرية الاختيار إلا بالقدرة على عَمَلِ ما اختاره.
والوقفة الخامسة: أن (كمال طبيعتنا) حقيقة وجودية، ولكنه ليس بمعنى الكمال المطلق الذي لا يقبل سلباً ولا إضافة مما لا يليق إلا بخالقنا سبحانه وتعالى، ولكنه كمال يتنوَّع بالأفضل والأنقص، وتكون الخِسَّة والتجرُّد عن طبيعتنا (وهي الفطرة التي فطرنا الله عليها) بالانحراف عن هذه المنحة التي سلف الإيماء إليها في الحديث عن برهان الكمال الذي جعل للمخلوقات العاقلة هداية كونية بالعقل والحس، وهداية شرعية.
والوقفة السادسة: أن موافقة أعمالنا للعقل وكمال طبيعتنا ليستا هما الحرية، ولكنهما مطلبٌ للحرية يرجوه كل عاقل سَوِيٍّ؛ ذلك أن الإنسان قد يريد حقاً أو خيراً أو جمالاً ولكنه لا يقدر عليه، ويأبى باطلاً أوشراً أو قبحاً ولكنه يُجبر عليه من طغيان فرد أو مُعَسْكر، ولكنَّ رحمة الله ظهرت في أمرين: أولهما حرية النية فلا سلطان لأحد عليها، وثانيهما أن الله بالحكم الشرعي رفع الحرج في الإكراه ما ظلت النية على حرية الصدق في إباء ما أُكْره عليه؛ فإن صبر على التعذيب أو القتل بلغ درجة المحسنين الشهداء.. كما أن الله بالحكم الشرعي أعظم الأجر لمن أراد الخير ولم يقدر عليه، بل كتب له أجر العامل إذا كان معتاداً على ذلك.
والوقفة السابعة: أن تفلسف لايبنتز إنما هو عن نوع من مطالب الحرية، وهو الحرية المعيارية، وفي هذا صفع للديمقراطية بمجملها؛ لأن هناك نوعاً آخر من مطالب الحرية، وهو الحرية غير المعيارية، أو إن شئت فسمها الحرية التي معيارها الباطل والشر والقبح، ويدخل في هذا حرية (اللامبالاة) عند أمثال الوجوديين؛ ولما كان المذهب العقلي صفعاً لمجمل الديمقراطية إباحيَّةً وإلحاداً كان ما تَلَا فلسفة ديكارت العقلية حرباً لا هوادة فيها على القِيم الكريمة في مذهب العقليين، وهي مذاهب فلسفية قد لا يستحضرها الذهن، وهي متناقضة في كيفية الهدم؛ لتشتيت الذهن، ولكنها متفقة على تنحية العناصر الكريمة التي هي المقوِّم للمذهب العقلي.
والوقفة الثامنة: أن الحرية المعيارية الخيِّرة ذات وجهين من ناحية الديمومة؛ فالوجه الأول مُؤقَّت، وهو البحث والتحري للحق والخير والجمال، ثم تنتهي الحرية عند ذلك وَيَحُلُّ محلها الالتزام.. والوجه الثاني حرية كل القدرات لصَدِّ ما يعارض الحرية المعيارية، وهذا يجب أن يكون له صفة الديمومة بالجهاد الدعوي والدفاعي؛ ولهذا رأيتُ - إما خوفاً، وإما غيابَ تفرقةٍ - خلطاً بين أمورٍ أربعة؛ فالأمر الأول مفهوم الحرية، وهي لا تعني سوى القدرة على فعل أحد شيئين أو أشياء، والقدرة على اختيار ما يريد فعله؛ فالأول حرية القدرة، والثاني حرية الإرادة.. والأمر الثاني قيمة ما هو مطلبٌ للحرية إرادةً وقدرةً، وهذه القيمة هي ما يقتضيه الحقُّ والخيرُ والجمالُ بيقينٍ أو رجحان؛ وهذا ينبغي أن يسمَّى (مطلبُ الحرية المعياريَّة).. وأما ما تقتضيه بواعثُ الهوى والشبهات والشهوات والظُّلم والعناد ومكابرة الحتميِّ والسعي إلى العدمية كما في فلسفة الوجوديين العبثية، وكما في الجزع من أقدار الله سبحانه وتعالى عند الانتحاريين: فينبغي أن يسمَّى (مطلب الحرية غير المعياريَّة)، وما في مجمل الديمقراطية ينبغي أن يُمْتَحَن ما هو منه معياريٌّ، وما هو غيرُ معياريٍّ؛ على أنه ينبغي رفضُ المفهومِ اللُّغوي المترجَمِ لهذه المفردة، وهو حكم الشعب للشعب؛ لأن الحكم حتميَّةً وحريةَ إباحةٍ لخالق الشعب سبحانه، كما ينبغي فضحُ النفاق التضليلي في هذا المصطلح؛ لأن مُعْتَقَدَ الصهيونية واليمين المتطرِّف للعالَـمين الغربيَّين إكراهٌ وجبريَّةٌ لوضعٍ بشريٍّ عَدُّوه معتقداً دينياً بتضليل الصهيونية في تحريف لاهوتها الذي تزعم أنه كله الآن (كما هو منشورٌ في الأرض من أسفار العهد القديم) من تنزيل الربِّ سبحانه وتعالى، وهكذا لاهوتها الطبيعي الذي جَعَلَتْه شرحاً لما سلف من أسفارٍ محرَّفةٍ كالتلمود.. ومع أن موسى بن ميمون اليهودي في جدله الكلامي بكتابه (دلائل الحائرين) يحاول تنزيهَ الرب سبحانه وتعالى، والتحرُّرَ مما في دينهم الوضعي من ظلمٍ؛ بسبب تأثُّره بعلماءِ المسلمين وإقامته بينهم.. إلا أنني رأيته لم يتحرَّر من كل أعباء أمثال التلمود، ولم يكن اجتهاده معتصِماً بما هو أضمن للهداية إلى الحق؛ وذلك هو مسؤولية العقل من خبرته مشاهدةً وقراءةً في التماس الدين الصحيح المصدِّق لما بين يديه قبل التحريف، وفي ملاحظة مأثوره الديني عن تعاقب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي إصراره على مأثوره وهو قادرٌ على السعي الحثيث في طلب النُّسَخِ الصحيحة من كتب الله بكل أدوات التوثيق الصحيحة بدون تحريفٍ ولا تأويل؛ فهي بذلك التوثيق هي التي بشَّرتْ بخاتمة الأديان الذي هو للناس كافَّةً، وبحمد الله نَشِطَ ذوو الاختصاص من الديانات الثلاث في تطوير جهد العلماء السابقين عن قطعيَّةِ البُـشْرى بهذا الدين، وشواهدُ البُشْرى جاءت بالاسم الصريح لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالاسم الصريح لموطنه، وبالوصف الصريح لنسب قومه وأميَّتهم، وبالواقع العملي من ظهور دولته وضمانة الله لحفظه؛ فلا يلتبس بما أدخله المبطلون من أكاذيبَ وتأويلاتٍ؛ لأن أدوات المسلمين في مجال التوثيق التاريخي والدلالي للنص الشرعي لا تُبارَى ولا تُـجارَى في هذا الجانب الذي جعله الله بقَدَره الكوني ضمانةً لحفظ وتمييز خاتمةَ الأديان، وشهادةً على تضييع من استُحفظوا كتابَ الله؛ ففرقٌ بين ما تكفَّل الله بحفظه وما وكل حفظه إلى البشر؛ إذن هذا الإكراه بذلك المأثور الديني يُنافي دعوى حكم الشعب للشعب، بل هو حكمُ اللاهوت المبدَّل لشعوب الأمم مع الإضاعة لمحظورات الإلحاد والإباحيَّة المُجْمَع عليها بين الديانات الثلاث.. والأمر الثالث الالتزام الذي يُنهي الحرية غير المعياريَّة؛ لأن العقل الإنساني المشترك، وهداية الأديان الإلهية لم تجعل قيم الحق والخير والجمال لمُـجَرَّدِ التصوُّر والمعرفة، بل لأجل الالتزام بهذه القيم ضمانةً لسعادة العباد والبلاد ديناً وآخرةً، وفتحُ الباب لغير ذلك على سبيل الإكراه من قوَّةٍ متنفِّذةٍ اعتداءٌ على الحريَّة المشروعة، ومناقضٌ للتصفيق للحريَّة التي جُعِلَت معياراً في نفسها.. والأمر الرابع المسؤولية التي هي نتيجة الالتزام وغير الالتزام؛ فعلى سبيل المثال - والأمثلة شارحةٌ غيرُ حاصرة - أنَّ من ملك القدرة على الكسب المشروع واختار الاستراحة واستجداء الناس مسؤول في دنياه عن فقره، ومسؤول عما يعانيه من ازدراء الناس له، ومسؤولٌ آخرةً عما حرَّمه الله عليه من القعود والاستجداء والتقصير في عمارة الأرض التي استخلف الله عليها بني آدم، ومفتاح الحق كله الإيمانُ باليوم الآخر الذي هو المُلْتَقَى للمحاسبة على المسؤولية بوعدٍ أو إيعاد.
قال أبو عبدالرحمن: دخل في المذهب العقلي مفسدون مضللون كذبة مثل (اسبينوزا) اليهودي، وكتابه رسالة في السياسة واللاهوت بناء غير عبقري لمجمل الديمقراطية على الأهواء والشبهات والشهوات إلحاداً أو إباحية وظلماً.. وسَلَفُ لايبنتز الفيلسوفُ الفرنسي رينيه ديكارت [1596 - 1650م] أبو الفلسفة الحديثة، ولقد نصَّ بأسلوبٍ أدبيٍّ لا يليقُ بالأسلوب الفلسفي المعاصر على الحرية المعياريَّة، ولكنَّه في سياقه هذا نافعٌ لعامَّة المثقَّفين.. نصَّ على أن ما ينقصه هو العلمُ دائماً (بصورةٍ واضحة) بما هو حقٌّ وخيرٌ؛ فإذا حصل له العلم لم يجد عناءً في إقرار الحكم الذي ينبغي إقراره.. ووصف هذا الإقرار بأنه هو الحرية تماماً؛ لأن غير المبالي عنده ليس حُرّ ْاً.. وذكر الحريَّة غير المعياريَّة التي وصفها بالعَظَمة بأنها السهولة التي يجدها البشر في اختيار أفعالٍ مع توخِّي الأسوإ على الرغم من إدراك البشر للأفضل، وههنا أيضاً وقفات:
الوقفة الأولى: أن ديكارتَ موفَّق في التفريق بين الحرية المعياريَّة وغير المعياريَّة، ولكنه مُسْتَأْسِرٌ لما سمَّاه شكَّاً منهجياً، والشكُّ المنهجي في حقيقته تجرُّدُ الفكر عن أيِّ رأيٍ مُسْبَقٍ إلا ما استقرَّ عليه اليقين من الضرورات الفكرية؛ فهذه الضرورات لا بد أن تبقى حاكمةً في التأمُّل الفكري عند اصطناع شكٍّ منهجي، والسرُّ في هذا أن إسقاطَ واحدةٍ من الضرورات تُوقِع في الخطإ حتماً في كل استشرافٍ مستقبليٍّ؛ ألا ترى على سبيل المثال أن جمعك أعداداً كثيرة في ثلاثة أسطر كلُّ سطرٍ من خمس خانات لو سهوت فيه عن عددٍ واحدٍ إسقاطاً، أو سهوتَ بإضافة عددٍ واحدٍ لفسدت النتيجة وكان الخطأ مضموناً؛ وهذا معنى أن العقل رياضيٌّ.
والوقفة الثانية: لهذا السبب الذي ذكرته في الوقفة الأولى جعل ديكارت الحسبانية البغيضة عقيدةً مسبقة؛ لأنه نفى العلم بما هو حقٌّ وخيرٌ نفياً مطلقاً، وهذا غير صحيح؛ لأن المشاهد في الخبرة البشرية أن الإنسان منذ بلوغه الحلم الذي يسمونه (أَوَّلَ التَّمييزِ العقليِّ)، وهو بداية التكليف في شرائع الله: يملك ضروراتٍ عقليَّة من تجربته الفرديَّة ومشاهدتِه الآخرين؛ فيرتاح لكرم الكريم، ويأسره حُنُوُّ الرحيم، ويَقْشَعِرُّ جِلدُه من كلِّ عدوانٍ وحشيٍّ، ويَسْتَحْضِر الهُوِيَّات التي خَبَرَها تصوُّراً أو حكماً كأوصاف ما يُطعم، وأوصاف ما يُسمع، وتمييز الحسِّ الباطني من مشاعر الفرح والحزن والكره، ويعرف الأجود والأربح.. إلخ؛ فكيف يكون أبو الفلسفة الحديثة منذ ممارسته التأليف بعد دراساتٍ علميَّةٍ ناضجةٍ خاليَ العقل من علمٍ بكثيرٍ مما هو خيرٌ وحقٌّ؟.
والوقفة الثالثة: أن ديكارت اشترط العلمَ الدائمَ بما هو حقٌّ وخيرٌ، وهذه عبارة مشوِّشة، والحقُّ في هذا أن العلمَ ببعض ما هو حقٌّ أو خيرٌ قد يتأخَّر؛ لأن الله لم يخلق الإنسان على كمال العلم منذ تمييزه بما يضمن له سعادته في حياته؛ وإنما يتدرَّج علمه ويتكاثر على المدى كما قال تعالى: ?وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? (78) سورة النحل.. ولكن الديمومة تحصل بشكلٍ دائمٍ منذ حصول العلم المستجد إلا أن يعتور ذلك إغماءٌ أو جنونٌ أو نسيان؛ فالمسؤولية حينئذٍ مرتفعة بحمد الله في شرائع ربنا وفي القوانين الوضعيَّة إلا ما يتعلَّق بالجناية على المال فيُستردُّ من المجنون إن وُجِدَ المالُ في يده أو كان وليُّ أمره ذا مالٍ.. والنسيان وحده مع سلامة العقل والحواس مُسْتَدْرَكٌ بالمراجعة والتذكر.. قال ربنا سبحانه وتعالى:?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ? (5) سورة الحـج، وقال سبحانه وتعالى: ?وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ? (68) سورة يــس.
والوقفة الرابعة: أن ديكارت اشترط الوضوحَ، وهذا الوضوحُ موجودٌ حتماً في اليقينيات، ولا يكون الوضوحُ خالصاً فيما هو رجحانيٌّ، ولا يُقِرُّ العقلُ ولا الدينُ تقديمَ المرجوحِ، أو التوقُّفَ، أو إلغاءَ الرجحان وابتغاءَ ما هو غير محتمل؛ إذن من الحرية المعيارية ما يكفي في وضوحها الرجحان ما ظلَّ الرجحانُ قائماً.
والوقفة الخامسة: أن ديكارت وصف إقرار ما علمه من الحق والخير بالحرية، والواقع أن الحرية كما أسلفتها عن مُلْكِ الاختيار والقدرة، وأما الحق والخير فهما مطلبان للحرية المعيارية، وأما إقرارهما فذلك هو الالتزام.
والوقفة السادسة: أن (غير المبالي) عند ديكارت ولايبنتز لها معنى غير المعنى في الفلسفة الغثيانية الوجودية التي تعني سلوكاً ينتهي إلى الغثيان وفقد القدرات والعدمية.. ومعنى غير المبالي عند العقليين من سلك مسلكاً من غير تحقيق عقلي يظهر الحق والخير والجمال من غير تجرُّدٍ تامٍّ ينتهي به إلى تحدِّي الحتميات وعدمية وغثيان الوجودية.
والوقفة السابعة: أن ديكارت وصف غير المبالي بأنه ليس حراً، وهذا غير صحيح، بل هو ذو سلوك حُرٍّ غيرِ معياري.
والوقفة الثامنة: أن ديكارت وصف الحرية غير المعيارية بالعظمة، ولا بد أن يفهم الوصف ههنا حتماً بأنه عظمةُ باطلٍ وشرٍّ وقبح.. وذو الحرية غير المعيارية لا يستطيع الاستقلال عن الطبيعة التي هو جزء منها؛ وإذْ لم يستطع فهو غير حُرٍّ؛ ذلك أن مفهوم الحرية عند ذوي الأمانيِّ أن يكون الفرد كائناً يتصرَّف بلا قيود وَفْق إرادته بالنسبة لحتميات القدر، وبلا إلزام يقضي به سلوك المجتمع.. ومن قيود المجتمع أعراف القبيلة في الأمم البدائية، وأحكام القانون في العالم المتقدم، وقضاء الله الشرعي في المجتمعات المؤمنة بالله سبحانه.. وفي السياق الفلسفي عن الحرية أجد الخلط بين حرية الضمير (حرية النية) وحرية السلوك، وحرية الضمير في حقيقتها مجرد أمنية، ولا أعلم حرية تتعلق بها الأمانيُّ إلا في أمرين هما: حرية التعبير، وحرية السلوك.. وأما حرية النية فهي مطلقة لا شيئ يُقيِّدها؛ ولهذا أوجز (هوبز) الحريةَ الأُمْنيةَ بأنها صمت القوانين، وأما ديفيد هيوم فقد تدنَّى في أمنيته فعدَّ سلوك المجانين أبعد ما يكون عن الضرورة؛ وذلك نتيجة عند الوجوديين.
قال أبو عبدالرحمن: أما توماس هوبز [1588 - 1679م] الفيلسوف الإنكليزي الذي أراد التوفيق بين الفلسفة العقلية ووضعية بيكون فله مذهب في القانون الوضعي بأنه حقيقةً (أَمْرُ الحاكم)، وهذا بالنسبة للمرحلة التاريخية في عصره؛ إذْ كان القانون الوضعيُّ في عصره مُستنداً على سوابق قضائية؛ فهو تقنين لها، ولا أدري ماذا سيكون رأيه لو أدرك قانوناً وضعياً ملغياً حق حكم الله لعباد الله قائماً على اجتهادٍ عقليٍّ بشريٍّ مُـجرَّدٍ عما سلف من أديان وتربيات.. سواء أكان هذا الاجتهاد صادقاً أم كان مُتَعَمِّدَ التضليل، وسواء أكان التطبيق صادقاً أم كان مُكْرهاً بمؤسسات عسكرية، ومؤسسات مالية تشتري الأصوات؟؟.. وهوبز في جمعه بين مذهب العقليين ومذهب الوضعيين مُلْحد لَـجُوجٌ يُفَرِّق بين الإيمان والمعرفة؛ فلا معنى لإيمان لا يصدر عن معرفة إلا اصطناع اعتقاد زائف.. ومن مذهبه في القانون كان اعتقاده أن المدنية تعني الخوف لا تلبيه الرغبات الاجتماعية وما في الأناسيِّ من نوازع طبيعية (الغرائز المتعارضة)، وهو يُقزِّم معاني القيم التي هي مطالب للحرية المعيارية؛ فيعرِّف الخير بأنه موضوع للاشتهاء؛ وذلك عنصر من المذهب النفعي الدنيوي، ويعرِّف الشر بأنه موضوع للنفور.. ومن التفصيلات في مذهبه عن الحرية التي هي نتيجة عن إيمانه بالحتمية: أنه يجعل الحرية وصفاً للإنسان وأفعاله دون إرادته، وفسر الإرادة بأنها الشهوة الأخيرة في عملية التدبير الإنساني، وأن الإنسان يتصف بالحرية إذا لم يوجد ضغط على أفعاله، ومع إثباته وجودَ الحرية إذا تخلَّف الضغط فإنه مع ذلك يصف هذا الفعل الحر بأنه نتيجة ضرورة، ويجعل الضروري نقيض العرضي. قال أبو عبدالرحمن: هكذا تتلاعب المذاهب الفلسفية - بعد مذهب العقليين الصادقين في تحري الحقيقة باستثناء المندسِّين فيهم تضليلاً - بالمفردات والغموض وتسمية الأشياء بغير أسمائها؛ فإلى لقاء مع هذه الظواهر المريضة في الفكر البشري التضليلي، والله المستعان، وعليه الاتكال.
(1) قال أبو عبدالرحمن: يسمونها ترجمةً (عقلانية)، ولا معنى للنون في لغة العرب، ولعلهم أرادوا بالنون الدلالة على العقل الإنساني المشترك؛ لتكون كلمة (عقلي) دالةً على عقلٍ فردي.. ولا ريب أن كلمة عقل وعقلي تدل على العقل الإنساني المشترك؛ فإذا أُريد عقلُ فردٍ أو مذهبٍ بعينه مَيَّزوا ذلك بالتقييد كالعقل الأرسطي، والعقل الوجودي.
(2) قال أبو عبدالرحمن: يرادف الحتمية في الاصطلاح كلمة (الجبرية) عند المتكلمين، إلا أن الجبرية عندهم خاصة بالأعمال الشرعية.
(3) قال أبو عبدالرحمن: أسماء الله وصفاته من ناحية إطلاق الكلمة توقيفية لا يجوز إطلاقها إلا بنص شرعي صحيح، وأما المعنى إذا صح فَيُرَدُّ إلى ما ورد به الشرع؛ فالله سبحانه القدير المهيمن لا مُكْرِه له فعَّال لما يريد، وكل شيئ بمشيئته، وفي دعاء القنوت أنه يقضي ولا يُقضى عليه، ولا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع، وقال سبحانه وتعالى: ?مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ? (2) سورة فاطر؛ فيرجع معنى الحرية إلى معاني تلك الصفات الكريمة.