بين فترة وأختها يتحفني زميلي (أبو محمد) -طيب الله ذكره- بإهدائي مع سويعات صباح العمل الأولى زهرة فُلّ يانعة تضوع منها الروائح العطرية الزكية فتبهج نفسي وتجعلها مقبلة على العمل حتى نهاية الدوام، وأعود من الغد فأجدها قد ملأت المكان بعطرها وكأنها تستقبلنا به مع تجدد الصباح، غير أن أبا محمد يكون أحياناً قد أحضر من حديقة منزله شقيقة جديدة لها كانت قد تفتحت مع نسمات فجر ذاك اليوم فيكمل شذاها عطر أختها التي كادت أن تغفو، ولا زلت أشعر بقيمة هذه الهدية من الزميل الطيب بتعامله وحديثه، وما الزهرة العطرة إلا صورة مصغرة ونموذج لما يكنه قلبه للناس، وشعار يجسد منهجه تجاه الغير، يأتي تلقائياً عفوياً شفافاً لا مرية ولا شبهة بمقصده، هذا مثال لإنسان يبدو لي أن مشاعره لم تعرف الكيد والحقد يوماً، بل هي أندى من الورود التي يعشقها ويتأملها كل صباح فتعطيه مزيداً من معاني المحبة والكرم وسمو الذات (يقطع الزهرة فتمنحه عطراً)..! ما أكرمها وقد علَّمته هذا المعنى السامي، لم تبخل بشذاها وإن فصلها عن غصنها وشجرتها وأبعدها عن جنينة المنزل التي ترعرعت فيها، لم تحجب هذا العطاء ليقينها بأن من الحكمة الثبات على المبادئ وهي إنما وُجدت لتمنح لا لتمنَّ، ولتبتسم كل صباح فلا تعرف معنى التجهم والعبوس بوجه الآخرين، للصباح في قواميسها معانٍ جليلة ورموز راقية، فبين تفتحها مبتسمة للحياة مقبلة عليها وبين عطرها يكمن البذل والإشراق بسخاء يدفع الأنفس دفعاً لتحتذي بها فتقبل هي الأخرى بروح رياضية متحضرة على يوم عمل جديد تحفُّه البهجة والحبور فيزيد العطاء المتقن ويتضاعف الإنتاج لخير البلد وأهله.. بارك الله بكل الزهور ومن يفهم لغتها ومعانيها، ويدرك أبعادها الجمالية رسماً وحساً، إن نظرت إليها أسعدتك وإن شممتها أتحفتك برائحتها الأخاذة، وإن لمستها لا تجزع بل تسبغ عليك من رحيقها.. أعود للمُهدي فقد قالت العرب: يُعرف المرء من أمور منها حديثه ورسالته وهديته، فكلما علت همة الإنسان كانت أفعاله عالية راقية، تنم عن عقل راجح ونفس مهذبة أبية وقلب نقي لا تعرف الأدران له طريقاً، ومن المعروف أن الهدية بمعناها لا بقيمتها وإنها موجبة لاستمالة القلوب وائتلافها، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذا المعنى إذ قال: تهادوا تحابوا، فالهدية تقع موقعها من الناس بما فيها من الملاطفة ونزع الضغائن وإن صغرت، فهي ملطفة لها مطفئة لجمرها الكامنتى لا يتواقد فيستعر بالنفوس شراً ولو بعد حين، فتبادل الهدايا يجلو الخواطر لتلمع صدقاً وتحناناً، حتى إن بعض السلف قد روي عنهم أنهم يتهادون حتى مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن لا يؤذونهم في الحي والجيرة، والواجب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة وكفاية الفقراء وأبناء السبيل في مجتمعنا الإسلامي ومن ذلك ما يأتي تلطفاً على صورة هدية.