طبعت النفوس على استذكار ما يمر بها من ذكريات ومواقف طريفة وجميلة، وخلاف ذلك عبر السنين المتلاحقة، وخاصة حينما يخلو المرء بنفسه أو ببعض جلسائه ورفاقه، فيحلو له سرد بعض ما علق بذاكرته من أشياء مفيدة ومسلية تؤنس السامعين، وقد تكون سببا في تداعي أفكار الحضور ومشاركاتهم، وإدرار الذاكرة لديهم من مخزونها العذب «مثلا» وتختلف مستودعاتها باختلاف حجم ما يوضع بها ويلصق بجدرانها ورفوفها من معلومات قيمه وقصص تاريخية تستوجب الحفظ والتداول بين أفراد المجتمعات، فإن عمرها يطول ويحيا مع تعاقب الأجيال جيلا بعد جيل..، وهكذا يحفظ التاريخ وما يتعلق بالتراث، فتلاقح الأفكار وتمازج الحضارات والمشاركات في إيراد ما تُجنه الذاكرة من معلومات، وأخبار قد لا تكون كلها سارة وجيدة، وإنما تذكر للعبرة والاتعاظ، وربما تكون مجرد أحاديث عابرة يتذكر فيها الإنسان ما جرى بينه وبين شخص عز عليه غيابه وفراقه..، مثل تذكري لشيخي وصديقي الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس الذي حزنت على فراقه ورحيله، وعلى خلو الساحة الأدبية والتاريخية من شخصه الغالي التي أثراها بعدد كبير من نفائس كتبه، فبالأمس القريب كان معنا، واليوم وقد شطت به النوى عن أهله وأسرته وأحبته:
حبيب عن الأحباب شطت به النوى
وأي حبيب ما أتى دونه البعد
- تغمده المولى بواسع رحمته - فذكرياتي معه متعددة المواقف والمواقع والمناسبات ..، فمن أقربها إلى قلبي - رغم تقادم عهدها - حضوره من مكة المكرمة إلى نادي دار التوحيد عام 1371هـ أيام كان طالبا بكلية الشريعة واللغة هو ونخبة من زملائه لمشاركتنا وتشجيعنا بنادي طلاب الدار، أذكر منهم على سبيل المثال: عبدالعزيز المسند، عبدالعزيز العبدان، عبدالعزيز الربيعة، صالح العلي الناصر، عبدالله الفالح، سليمان الشلاش، صالح الحصين، محمد المرشد وغير أولئك الطلاب - آنذاك - رحم الله من رحل منهم، وأسعد الباقين إلى يومهم الموعود..، ولا زلت ذاكرا وقوف الشيخ عبدالله أما باب القسم الداخلي - مهجع الطلبة المغتربين -، الواقع بحي قروى بالطائف، وهو ممسك بيدي مسلما قائلا: طيبون؟، وكانت هذه العبارة هي أول كلمة فصيحة سمعتها منه، لأن معظم كلامنا - آنذاك - تغلب عليه العامية في غالب الأحيان، فهو يرحمه الله مطبوع على الفصاحة واختيار جيد الألفاظ اللغوية باختصار..، وحاثا على الجد والمثابرة في التحصيل العلمي والثقافي كي نعود إلى أهلينا بنجد حاملين المؤهلات المشرفة، فهو بمنزلة الزميل مع فارق العمر بسنوات طويلة، وبمرحلة الدراسة!، كما لا ننسى الرحلة الميمونة إلى منطقة نجران عام 1411هـ حيث تلقينا دعوة كريمة من أمير نجران - سابقا - الأمير فهد بن خالد السديري واخوته الكرام لحضور حفل جائزة والدهم الراحل الأمير خالد بن احمد السديري - رحمه الله - للتفوق العلمي برعاية صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب أحمد بن عبدالعزيز نائب وزير الداخلية والتي ضمت كوكبة من المشايخ ولفيفاً من كبار الأدباء والمثقفين، أمثال الشيخ عثمان الصالح والشيخ عبدالله بن خميس - رحمهما الله، والزميل الأستاذ عبدالله الحقيل والأستاذ محمد بن عبدالله الحميد رئيس نادي أبها الأدبي..، والدكتور زاهر عواض الألمعي، والعميد إبراهيم بن علي الألمعي، والشيخ عبدالله عواض الألمعي والأستاذ الصحفي عبدالله بن علي المليص، وعدد كبير لم تسعفنا الذاكرة بذكر أسمائهم، وبعد انقضاء الحفل أخذ الأمير الفاضل أحمد بن عبدالعزيز القيام بجولة تفقدية لبعض المصالح الحكومية، وعدد من القرى والمدن مُنصتاً لمطالبهم، وما تحتاجه بلدانهم من تطور ومشاريع تنموية، ومنح بعض الفقراء شيئا من المال - جزاه الله خيرا، مع المرور على بعض المواقع الأثرية مثل منطقة الأخدود الموغلة في القدم التي جرى ذكرها فيلقرآن الكريم، ومشاهدة المدينة التاريخية والمتحف التراثي الأثري، وغير ذلك من المواقع والمعالم القديمة..، فأخذ الشيخ عبدالله بن خميس يدون أسماء بعض المواقع التاريخية والأثرية شارحا لنا من ذاكرته بعض ما خفي على الحضور عن تلك المعالم، وبعد وفاته قريبة العهد أي في صباح يوم الأربعاء 15-6-1432هـ تذكرت العبارات التي تفوه بها أمام هاتيك المواقع التاريخية بمنطقة نجران، ثم شخص لذهني قول الشاعر:
ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة
شخصا وإن جل إلا عاد محجوبا
كذلك الموت لا يبقي على أحد
مدى الليالي من الأحباب محبوبا
وقد بالغت أسرة آل السديري في إكرام الجميع مع منحهم جميعا أسنا الهدايا وأثمنها وأبقاها أثراً في نفوسهم - جزاهم الله خيرا ورحم والدهم - ، ومن الذكريات التي مازال رنينها باقيا صداه بين أضلعي زيارتي المتكررة لمنزل الشيخ عبدالله بحي الفوطة عام 1379هـ أثناء تأسيسه لصحيفة الجزيرة، وحرصه على استقطاب بعض الكتاب المميزين - وهم قلة آنذاك - ليضمن نجاح صدورها واستمرارها، وبحمد الله تم له ذلك بمعاضدة المخلصين معه، ولقد عرض علي المشاركة فاعتذرت لعدم استطاعة قلمي لمجاراة أولئك الكتاب الأفاضل في تلك الفترة البعيدة، فذكرياتنا الجميلة معه لا يمحوها ماح، ومن آثاره الخالدة مؤلفاته متنوعة الأصناف والمشارب، وصوته الجميل الجهوري الشيق عبر الإذاعة في برنامجه (من القائل) الذي أفرغها في أربعة مجلدات، وفي أشرطة منذ ثلاثة عقود من الزمن سيظل مدويا في الوجود بعده مؤنسا لسامعيه ومحبيه وذكراً باقياً:
تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث
وصوتها يتلو الأشعار والسيرا
وعلى أي حال فإن إعداد هذه الكلمة الوجيزة تلذذا بذكراه وضربا من الوفاء رغم قرب تأبيني له بهذه الصحيفة الغراء يوم الاثنين 20-6-1432هـ
مختتما بهذين البيتين للشاعر أحمد شوقي في رثاء صديقه حافظ إبراهيم:
خلفت بالدنيا بيانا خالدا
وتركت أجيالا من الأبناء
وغدا سيذكرك الزمان، ولم يزل
للدهر إنصاف وحسن جزاء
رحمه الله رحمة واسعة
حريملاء