منذ أن ساء كيان بيت الحكمة في بغداد على يد الخليفة المأمون، وحتى إنشاء أعرق جامعات العالم المتقدم في الشرق والغرب، بدت حقيقة مضيئة في أذهان مؤسسي هذه الصروح العلمية، وهي الفرد المتعمّق في علمه والرائد في مجال تخصصه الذي يطلق عليه في الأعراف العلمية المعاصرة (أستاذ) Professor، والذي تحصل على أعلى رتبة علمية ومن خلالها برهن عن معرفة علمية متقدمة من جهة، وأمكن الاعتماد عليه في الإسهام وقيادة عجلة البحث العلمي ومستوى التعليم من جهة أخرى.
وإذا ما أدركنا أن الجامعات هي مؤسسات وجدت للتعليم والبحث العلمي، أمكننا الإدراك أيضاً أنها - أي الجامعات - لا يمكن أن تؤدي وظيفتها على أكمل وجه ما لم تحقق لنفسها أمرين:
أولاً: استقرار توجهها وهدفها.
ثانياً: تحقيق إنجازات.
وعلى هذين العطاءين ترسخ سمو ورفعة معظم جامعات العالم المتقدم، وهذان العطاءان لا يمكن أن يتحققا إلا بصياغة قيم أكاديمية حضارية عصرية ويأتي في مقدمتها تنظيم كيان الجامعة ووضعها أمام عربة التقاليد الأكاديمية العريقة، ومن أهم تلك التقاليد: تقدير الرتب العلمية وعلى رأسها رتبة الأستاذ وإعطاؤه حقه، ومن المؤسف أن أصحاب هذه الرتب العلمية يعانون في كثير من الأحيان من (تقليل) دورهم و(تقزيم) حجمهم و(تهميش) فاعليتهم، مما خلَّف حالة تشاؤم تلف العديد منهم، وأجزم أن الكثير لا يمكنهم مخالفتي في قناعتي هذه ومن لا يتفق معي أتمنى عليه العودة إلى داخل أروقة وإدارات الجامعات في الأقسام والعمادات وغيرها ليجد فصولاً متكررة من كوميديا الصراع على قيمة الرتبة العلمية وعدمها، ولعل أبسط شاهد على ذلك هو ملء الإدارات الرئيسة بالتعيين الذي يتركز على أقل رتبة علمية وليس على أعلى رتبة لأشخاص تداولتهم ظلامات غياب المعرفة الأكاديمية الحقيقية وتلاشت عندهم المقدرة البحثية ليقرروا في النهاية (هم) قرارات علمية بحتة.
أن تقدم ورفعة شأن أي جامعة لا يتحققان إلا بسيادة واستقرار مناخ التقدير والثقة بمجتمعها العلمي، وازدهار تلك المسيرة لا يتبدى حقيقة ما لم تفعّل الأعراف والتقاليد الأكاديمية الصحيحة، ولن تتألق أسماء جامعاتنا ما لم تشرق شمس قيم الرتب العلمية عالية في سمائها.