تستعد مملكة البحرين هذه الأيام لمحاكمة 47 شخصاً من العاملين في المجال الطبي، بينهم 24 طبيباً. هذه المحاكمات تأتي بعد تلك الأحداث المؤلمة التي مرت في منطقتنا، وتابعنا جميعا كيف تحول مستشفى السلمانية إلى ثكنة عسكرية؟ وكيف تم استغلال أجل وأنبل مهنة في مزايدات طائفية وسياسية! كما شاهدنا عمليات السطو على الموتى المتواجدين في ثلاجة المستشفى وتصويرهم وكأنهم ضحايا السلطات البحرينية، أما بنك الدم الذي وضع لإنقاذ الأرواح فقد تم انتهاكه واستخدامه لتظهر الصورة أمام الرأي العام «حلوة».. وهيهات من أن نصدق تلك الألاعيب التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطلي على عاقل. والأدهى والأمر هو امتناعهم عن علاج من لا يتفق معهم سياسياً أو طائفياً، دون حراك للضمير الإنساني الذي أيقظه الله في أصحاب هذه المهنة أكثر من غيرهم!
هذه المشاهد جعلتني أفكر ملياً بالأمانة الطبية، خصوصاً بعد موقف شخصي حصل معي حينما اتصلت بي شقيقتي تشكو من آلام تجتاح بطن صغيرتها من حين لآخر، وأنها عرضتها على عدد من الأطباء ولم تخرج بحل، اقترحت عليها أن تعرضها على أحد الأطباء وأعطيتها اسمه، سألتني: «كيف أحصل على موعد معه؟» أجبتها: اتصلي به وعرفيه بنفسك وبالتأكيد سيساعدك بتحديد موعد قريب. بعد أقل من ساعة، عادت واتصلت بي مستنكرة، تروي لي ما دار في المكالمة، وأنها بمجرد ما عرفته بنفسها تجاهل شكواها -الطبيبة- وأخذ يكيل باللوم والنقد على ما جاء في مقالٍ سابق لي كان عنوانه: (يستاهلون المشايخ) لم ترد أختي ولم تناقشه وأظنها حتى لم تقرأ المقال. وحين انتهى قالت له: «طيب يا دكتور متى أقدر أجيب لك بنتي»، رد سريعاً: «أنا ما نيب إسعاف، روحي وديها لأي طوارئ!». موقفه في حقيقة الأمر جاء بمثابة الصدمة، علماً بأنه يعمل في مستشفى خاص وسيحصل على أجرته. تحدثت مع والدي في هذا الأمر، سألته: «هل تتوقع لو ابتلاني الله -سبحانه وتعالى- بمرض وشاءت الأقدار أن أكون تحت يد هذا الطبيب أو غيره ممن يختلف معي في رأي من آرائي أن يقتلني، أو على الأقل يتهاون في علاجي؟ رد والدي وهو مصدوم أيضا: «لا استبعد».
بصراحة، أستغرب من أن يصل الاختلاف في الرأي إلى حد الكره والبغض، وهذا ما يذكرني بقول العلامة ابن القيم: «وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه».
إن كان الاختلاف ظاهرة صحية للمجتمع، إلا أنه ومن المؤسف أن يكون عند النخب الفكرية سببا لإقصاء الآخر، ويصل إلى من وضع الله بيده الرحمة والإنسانية والعمل من أجل إنقاذ أرواح البشر، أن تتحول إلى يدٍ من حديد حارق لا ترى الرحمة إلا لمن يتفق معها. كما أن الأمانة الطبية هي أمانة لها خصوصية تختلف عن أمانة أي مهنة أخرى، لأنها تتعلق بالإنسان، بروح الإنسان التي كرمها الله -عز وجل- وخصها بعظمة دونا عن آياته الأخرى.
وبالعودة إلى ما حصل من أطباء البحرين، فهو بنظري جريمة مضاعفة، ننتظر أن يتم حسم عقوبتها بأغلظ وأشد من أي جريمة أخرى، لأنها جريمة استغلت كرامة البشر واستباحت حرمات الموتى. أما ما حصل لي من موقف شخصي فقد أتيت به هنا كمثال شاهد على وقائع مؤلمة، وممن؟ من ملائكة الرحمة، لن أزيد عن: حسبي الله ونعم الوكيل!
www.salmogren.net