لذلك تأتي الأفعال هزيلة أو لا تأتي مطلقا أو تأتي مناقضة لما تم التصريح به لأنها تعكس ما نقدر عليه فعلا لا ما نتمناه أو لأن ما نصرح به لا يعبر عن حقيقة ما نشعر به أو نفكر فيه أو لأنه مجرد تفريغ لشحنة عاطفية محتقنة. ولا يختلف إخوتنا في حركة (حماس)عن بقية العرب بل هم يزيدون عليهم. ويتبين ذلك عندما يحاول المرء استكناه التوجهات السياسية الحقيقية لهذه الحركة. ومعلوم أن هذه التوجهات المعلنة تميل مع اتجاه الرياح القادمة من الشرق أو الشمال الشرقي. إلا أن هذا لا يمثل مشكلة في حد ذاته إلا بقدر ما يصطدم مع المصلحة الفلسطينية. ونسمع من قادة حماس في مرات عديدة تصريحات لا يبدو أنها تخدم المصلحة الفلسطينية. ولذلك فإن قليلي الخبرة في دروب السياسة يقفون في حيرة من أمرهم ويتساءلون: هل هذه التصريحات بمثابة ألعاب نارية يقصد بها تسجيل موقف أو لفت نظر؟ هل هي من صفات (الظاهرة الصوتية) التي ألصقها المفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي ببعض العرب، فهي تفرقع ثم تتلاشى؟ أم هي نوع من المكر والدهاء السياسي في شكل بالون اختبار؟ أم أن الغرض منها استمالة الرأي العام (أو كما يقال للاستهلاك المحلي) لصرف نظره عما يمارس حقيقة ؟ إذا كان الأمر كذلك طبقا لأي من هذه التساؤلات فما الداعي إذن لإطلاق تصريحات إثمها أكبر من نفعها؟ دعونا نختبر ذلك في حالتين اثنتين (من حالات كثيرة).الأولى: عندما لقي أسامة بن لادن مصرعه طالعتنا وسائل الإعلام بتصريح للسيد إسماعيل هنية وصف فيه بن لادن بأنه مجاهد عربي مسلم. فإن كان زعيم القاعدة كذلك فلماذا كانت حماس تحرص على نفي أي وجود للقاعدة في غزة؟ لعل الأمر كان لا يتعدى مجرد تنهيدة عاطفية عابرة، وإلا فإن هنية يدرك أن مواصفات المجاهد لا تنطبق على من كانت تجري تحت لوائه وبمباركته تفجيرات الأحياء السكنية وقتل المدنيين في الرياض مثلا. وكان الأجدر به أن يقيم وزنا لمشاعر إخوانه السعوديين وغيرهم من ضحايا القاعدة المسلمين وغير المسلمين. ولو كان قتل خلال مجاهدة الاحتلال السوفييتي في أفغانستان أو في أثناء معركة مع الجيش الإسرائيلي في فلسطين على سبيل الافتراض-وهو ما تحاشاه أصلا- لما كانت تصريحات إسماعيل هنية محل استغراب. أما أن يكون ذلك بعد هذه السلسلة الدموية الطويلة من التفجيرات والقتل التي أهوى بها على جسد الأمة الإسلامية وأوغر بها صدور العالمين على الإسلام فإن هذا أغرب الغرائب وأدعى لن تخسر (حماس) بعض التعاطف. ومن حسن حظ هنيه أن هذا التصريح ضاع صداه في خضم الصدى الذي خلفه مقتل ابن لادن وفى حمى السعي لإجراء المصالحة الفتحاوية الحمساوية. الحالة الثانية: رد الفعل الحمساوي على خطاب أوباما الذي ألقاه يوم 16-6-1432هـ وتضمن لأول مرة تأييدا لدولة فلسطينية على أساس حدود 1967، وهذه نقطة فاصلة اقترب بها -ولكنه لم يصل!- من تأييد خالد مشعل لدولة فلسطينية بحدود عام 1967م.
هذا الاقتراب أغضب نتنياهو لكنه لم يلق أي تعليق إيجابي ولو بتحفظ، وإنما وصفه بعض قادة حماس بأنه ذر للرماد في العيون. كان بإمكان حماس أن تلتقط هذه الفرصة السانحة وتجعل منها منطلقا لبناء برنامج سياسي مشترك مع فتح لا يتخلى عن الثوابت الفلسطينية الوطنية ولكنه لا يبقى ذريعة للجانب الإسرائيلي أمام الحليف الأمريكي. لا أحد يستطيع أن يساوم على حق مقاومة الاحتلال ما دام قائما، لكن الأولوية في المقاومة هي للسلاح الفعال الذي يخدم تحقيق الهدف المنشود فذاك هو السلاح الشرعي وليس سلاح التصريحات والتهديد بردود فعل (مزلزلة) لا تأثير لها ولا تقرب من الهدف قيد أنملة. ذلك أن الإستراتيجية الناجحة هي تلك التي تضع تركيزها على الوصول إلى الهدف الأكبر أولا إذا كان ذلك ممكنا بأيسر الخيارات، ثم تسعى إلى تحقيق الأهداف الأخرى من موقع متمكن.
وعودة إلى خطاب أوباما فليس المطلوب الترحيب بكل ما فيه جملة وتفصيلا، لكن ليس المطلوب أيضا إطلاق التصريحات التى ترفض كل ما فيه جملة وتفصيلا فتصبح حركة حماس أسيرة ما جرى على اللسان، في حين أن الحكمة التي تمليها مصلحة الوطن الفلسطيني تقتضي دراسة النواحي الإيجابية والجلوس مع فرقاء المصالحة لبناء موقف موحد تجاه إيجابيات الخطاب مع التحفظ على ما يهز الثوابت الوطنية. المصالحة ليست ذات وجه داخلي فحسب بل يجب أن تحمل وجها خارجيا باسما يزيل تردد الدول ذات النفوذ ويشجعها على المشاركة في جعل الدولة الفلسطينية واقعا ملموسا معترفا به ومقبولا حتى من حلفاء إسرائيل. التصريحات المتعجلة ذات اللهجة الرافضة بإطلاق في الشأن الفلسطيني تحرج الصديق وتعطي الحجة للخصم وتقفل هامش المناورة والقدرة التفاوضية وتضطر حماس -حتى لا تبدو كاذبة- إلى التمادي في الموقف السلبي الرافض مما يمنح الخصم الوقت اللازم لتعزيز إمكاناته في صناعة واقع يخدم مصلحته، ويهديه على طبق من ذهب المعول الذي يهدم به وحدة الصف، بل هو قد لا يحتاج إلى معول هدم لأن الصف أصلا ليس موحدا، فكل فريق من فرقاء المصالحة ينشد لحنا مختلفا. حتى في داخل الحركة فإن اللسان مشقوق: فريق يرى إعطاء فرصة للتفاوض وآخر يستنكر، وكل ذلك يصرح به على رؤوس الأشهاد. موقف واحد ولسان واحد هو ما يحتاجه إخوتنا الفلسطينيون في التعامل الموزون مع مبادرة أوباما ليستطيعوا أن يقنعوا العالم أن تمسك نتنياهو بشرط الاعتراف بإسرائيل دولة لليهود إنما هو تطرف عنصري لا يقل عن عنصرية جنوب إفريقيا وألمانيا النازية في زمن مضى أو تطرف ديني يتصادم مع علمانية الغرب.
ما أود الوصول إليه هو أن أوباما لم يقدم الكثير لكنه تقدم خطوة فعلينا أن لا نصرخ في وجهه قائلين: قدم أكثر فأكثر ونتسمر في موقفنا فقد يتراجع عندئذ إلى الخلف. علينا أن نشجعه بموقف إيجابي على التقدم خطوة أخرى. بتصريحات كثيرة نخسر نقاط ارتكاز كثيرة، وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني!