أمور كثيرة في حياتنا لم ترد فيها نصوص واضحة في الدين، وتركها خالقنا رحمة بنا ورأفة لتقديرنا واجتهادنا وفق مصلحتنا العامة الوقتية حتى ولو اختلفنا حولها، ففي الاختلاف رحمة كما يقول الإمام مالك، إمام الأئمة رحمهم الله أجمعين، والإسلام يتميز بكونه دين حوار وانفتاح.
ولذا فلا بد من الاجتهاد في بعض الأمور المستجدة بشكل أو بآخر، مع التنويه بأن الأصل كما هو معروف في جميع الأمور الإباحة.
ونحن من واقع حرصنا على ديننا وسلامة مجتمعنا كنا وما زلنا نرى له خصوصية من بعض الجوانب النواحي الدينية والأخلاقية، ولذلك فشواهد التطور الاجتماعي المتمثلة في مواقفنا إزاء بعض الظواهر الحضارية، توضح تبنينا دائماً لسلوك الحيطة والحذر.
فكانت مواقفنا في عموم الأحوال متمهلة إن لم نقل بطيئة، ومن ذلك أمور مثل تقبل مستجدات حضارية بسيطة كالساعة، والتلفون، والتلفزيون وغيرها.
فالمسلمون هم أول من اخترع الساعة حيث أهدى الخليفة هارون الرشيد أول ساعة في التاريخ لشارلمان إمبراطور أوربا آنذاك، إلا أن البعض منا نظر للساعة حديثاً بنوع من الريبة على أنها فضل في التبرج وزيادة في الزينة التي قد تكون المحرمة، ولذلك فقد كان هناك من حرم لبس الساعة قبل وقت ليس بالبعيد.
وقس عليه أيضا أي تسريحة للشعر التي لا تجزه على الصفر، ولبس الثوب بالكبك لأنها اُعتبرت أمور مستحدثة، وكل مستحدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أما ركوب الدراجة الهوائية فاعتبر مكروها لأنه، ومن باب سد الذريعة، قد يكشف عورة الراكب عندما يسقط من على ظهرها، واستنكر البعض لبس البنطال العسكري لأنه يفصل جسم الرجل وقد يكون مدعاة للمفسدة وإغراء للمرأة، علما بأن قلة من الناس في ذلك الوقت كانوا يعرفون الملابس الداخلية (الأوميك) ليس لأنها موضة تغريب مستوردة بل لأنها باهظة الثمن، وكان الرجل عندما يسقط، أو يسهو في جلسته، تسقط جميع أمور الستر معه.
الظواهر الاجتماعية السابقة هي إجمالاً انعكاس لمواقف فكرية مترددة كانت سائدة في المجتمع حينئذ كمسلّمات رغم أننا اليوم نعتبرها حكايات طريفة نتندر بها عن تخلفنا، ونذكرها في مجالسنا متبعة بعبارة «الله المستعان».
فقد انعكس الحال اليوم، وأصبحت تسريحات الشعر المسماة سابقاً «بالتواليت» هي العرف المعتاد اليوم ولا تتعارض مع لحية كثة مهذبة تكملها في أسفل وجه الرجل وتضفي عليه مظهرا جذابا مهيبا، وأصبحت «القرعة»، أو «القزع» موضة ممجوجة مستنكرة، وأصبح من المألوف جداً أن تشاهد رجلاً ملتزماً في أماكن عامة، في مركز تجاري أو مركز للتسوق، وهو يعتمر بنطال برمودا من الجينز وكاب بيسبول يتقدم زوجته المنقبة، المتسترة ولله الحمد بعباية على الرأس، وقد نجد عذراً للبس هذا الزي لأن الجو لدينا حار جداً، وهو لا ينقص من وقار لا بسه.
والأمر لا يقتصر على الشكليات ولكنه قد يمتد لبعض الأساسيات في حياة مجتمعنا ومسيرة تطورنا كتعليم الفتاة مثلاً، حيث رفُض تعليم الفتاة في بداياته من قبل فئة كانت ترى فيه، أو تخيلته خطوة قد تقود لما لا يحمد عقباه من إفساد لها، وكان الرفض لنية حسنة وخطأ في التقدير والتوجس فقط.
وبيننا اليوم من كبارنا ممن كانوا بعيدي النظر آنذاك، من كاد يفقد حياته لإيمانه بأهمية التعليم الفتاة، فعمل في سلك تعليم البنات، وأوكلت له مهمة فتح مدرسة هنا أو هناك.
ولكن الجميع بلا استثناء اليوم يقر بضرورة تعليم الفتاة، ولم يحصل ما كنا نتخوف منه.
بل ويقر بأهمية عملها ومساهمتها في نهضة المجتمع جنباً إلى جنب مع الرجل.
وأثبتت المرأة السعودية أنها أهل لذلك، بل وبرهنت على علوّ كعبها (كعب كفاءتها) على الرجل في كثير من المجالات.
نحن قبلنا تعليم المرأة ونراه ضرورياً، وقبلنا عمل المرأة في مختلف المجالات ونراه أساسياً لتقدم المجتمع وازدهاره ولكن بعضنا يقف موقف المتردد المتخوف فيما يتعلق بتنقل المرأة، أو فلنقل قيادة المرأة للسيارة.
وهو أمر قد يكون إعادة حديثة لتخوفات الأمس.
فهناك إجماع أنه لا يوجد أي مانع شرعي أو محظور ديني في ذلك، إنما الأمر يتعلق بتخوفنا من أن تتحول قيادة المرأة للسيارة إلى ظاهرة تربك المجتمع وتعرض المرأة ذاتها لأخطار التحرش أو الافتتان، أو غير ذلك من توجسات لا تعكس تخوف المرأة ذاتها بل تخوفنا نحن عليها ومنها.
وواقع الحال يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة.
حقيقة لا يجد، كاتب المقال، فارقاً كبيراً بين ركوب المرأة للسيارة وقيادتها لها، فالفرق من الناحية المنطقية بسيط جداً، وهو في الكيف وليس في المبدأ، ويقتصر فعلياً على أنه بدلاً من أن تركب المرأة بجوار الباب الخلفي الأيسر للسيارة خلف سائق آسيوي، تركب في المقعد الأمامي الأيسر وتحرك المقود يميناً ويسار.
المرأة نفسها، والسيارة ذاتها.
وبما أن المرأة هي الأخت، والزوجة، والأم فلا بد من أن نبدي نحن معشر الرجال مروءة وشهامة في غض البصر عنها، وعدم مضايقتها وتركها تمضي في سبيلها.
فنحن ولله الحمد، أو على الأقل كما ندّعي، شعب ملتزم دينياً، ولنا أعراف اجتماعية تلزمنا صون عرض الآخرين وحماية شرفهم.
فالتخوف، أو التذرع هو في واقعه تخوف من الرجل وليس تخوف من المرأة، فهو العنصر المنفلت في هذه المعادلة، والدليل على ذلك أننا نسمح للمرأة بالخروج في السيارة مع سائق أجنبي، يكون في بعض الأحيان أكثر وسامة من الزوج، دونما تخوف أو تخوين.
فنحن لا نختلف في أن نسائنا ولله الحمد أهل للثقة.
كما أن الكثير من نسائنا مارسن القيادة بكل اقتدار في الخارج أيام عملنا ودراستنا أو دراستهن.
وكانت القيادة ضرورية لهن ولنا.
ولم يكن أحد منا يستطيع تأمين سائق لأن تلك البلدان لا تمنح فيزا لأجنبي لأمر تافه مثل قيادة السيارة، وترى أن من لا يستطيع القيادة بنفسه عليه أن يستقل المواصلات العامة المنظمة.
ولذلك، وفي رأي الكاتب، فسد الذريعة يجب أن يتجه للطرف الذي يُخشى منه الخطر وهو الرجل، وهذا هو الأمر المنطقي.
فيجب أن ينصب اهتمامنا حول كيفية تكييف الرجل وتوعيته، وإيجاد تشريعات وأنظمة تهيئه لتقبل ممارسة المرأة لحقها في التنقل في وسيلة نقل خاصة بها وتحت تصرفها.
ولو أخذنا بمبدأ «الأخذ بأخف الضررين» فإن قيادة المرأة للسيارة أخف بكثير من الأضرار الكثيرة والمركبّة التي جلبتها لنا فئة الرجال الأجانب ممن نستوردهم دونما سابق معرفة، ونغمض أعيننا عنهم، ونسلمهم زوجاتنا، وبناتنا، وأعراضنا يتنقلون بهن دون مصاحبة منا، لأننا فقط نصنفهم كسائقين.
فالفرد منا لا يرضى أن يوصل جاره الموثوق زوجته للعمل أو المستشفى بمفرده، ولكنه يسمح بذلك لأجنبي لا يعرف له أصلاً أو فصلاً.
كما أن قضية قيادة المرأة أصبحت عبئا إعلامياً وحضارياً علينا في الخارج، فنحن المجتمع الوحيد الذي لا يجيز للمرأة القيادة، ولذلك فالكاتب يضم صوته للأصوات التي ترى ضرورة البدء في تهيئة الرجل لتقبل قيادة المرأة فقد آن للعقل أن يقود العاطفة.