مقالتي هــذه ليست أول مقالة أكتبها في هذا الشأن المؤلم ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة إذا أمدَّ الله في عمري، أقول هذا القول بناءً على معطيات كثيرة على رأسها هذا التمدد للفكر المنحرف الذي يدّعي التزاماً بالمنهج الإسلامي وهو أبعد ما يكون عن ذلك، في ظل ضعف تثقيفي علمي حقيقي قادر على مواجهة هذا التمدد بالأسلوب الصحيح، لا أسلوب التهويش والمعاملة بالمثل.
لنأخذ الأمر بشيء من التدبر لعل الله يفتح قلوباً عمياء، ويجلي عنها الران الذي تلبَّسها فأعماها عن الحق.
الرسول الكريم الذي ندّعي محبته وننافح عن عرضه ونقاتل إذا نِيل من اسمه هو القائل بالنص المتفق عليه في خطبة الوداع وعلى صعيد عرفة الطاهر: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، والمؤكد على هذا الأمر في أيام التشريق مرة أخرى بقوله: (يا أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم وفي أي بلد أنتم؟ فقالوا: في يوم حرام، وبلد حرام، وشهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا).
لنتدبر قوله عليه الصلاة والسلام ونسأل أنفسنا لماذا هذا التأكيد على حرمة الدم وتعظيم الخطب؟ لماذا اختار صلى الله عليه وسلم هذا الزمان وهذا المكان تحديداً ولم يكن في أي زمان أو أي مكان؟ والجواب كما يعلمه الجميع لعظم الجرم وخطورة الإقدام على شيء من هذه المحظورات الثلاثة، دم وعرض ومال، هي كل ما يملك الإنسان في هذه الحياة، دمه حياته، وماله معاشه، وعرضه كرامته، ولذا كان تأكيده عليه الصلاة والسلام على وجوب صيانة هذه الأمور الثلاثة من هذا المكان المحرم وفي هذا الشهر المحرم وفي هذا اليوم المعظم.
وهذا قول الحق تبارك وتعالى المؤكد على عظم عقابه لمن يقتل مؤمناً: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) سورة النساء.
ولعل المتأمل يجد أن جرم سفك الدم عاقبَ عليه الإسلام أشد العقوبة وتوعده بجهنم والخلود فيها.
يقول ابن حجر - رحمه الله - تعليقاً على حديث (كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) في الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك)، وهذا هو واقع من يقومون بعمليات التفجير والاغتيالات، فإنهم يعدمون الإنسان دون وجه حق ودون معرفة به أصلاً، فهدفهم إنما هو ترويع الآمنين وزعزعة أمن الدول والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هو القائل: (من روع مسلماً روعه الله يوم القيامة)، وهذا يعني التحذير الشديد من التلاعب بنفسيات الناس، فكيف إذا كان قتلهم؟
قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار) رواه الترمذي، (1318)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1298) آيات زاجرات وأحاديث محذرات كلها تؤكد على حرمة الدم وتتوعد من سفكه بالعقاب الأليم، والرسول الكريم جعل من هذه القضية، أعني قضية الدماء أمراً بالغ الخطورة لما له من أثر في غاية البشاعة على بنية البشر بشكل عام، ولذا كان تحذيره عليه الصلاة والسلام في يوم عظيم ومشعر عظيم وشهر عظيم، بل إنه دائماً يؤكد على وجوب احترام الإنسان حتى بعد موته فقال: (حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً)، وهذا تأكيد آخر على حرمة المسلم في حياته وبعد مماته، فكيف لهؤلاء المدعين التمسك بالدين، يقتلون ويروعون الناس ويدّعون حباً للإسلام وانتصاراً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
قال عليه الصلاة والسلام: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري، وقال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي.
نصوص واضحة لا تقبل التأويل ولا الاجتهاد، فكيف يجرؤ هؤلاء على سفك دم إنسان مسلم؟! بل كيف لا يعون هذه الآيات وهذه الأحاديث الزاجرة المتوعدة بأشد وأنكأ العقوبات!! كيف يفسّرون هذه الآيات ويشرحون هذه الأحاديث واضحة الدلالات؟
قُتل غيلةً حسن القحطاني والد الطفلة ذات الأيام الخمسة وهو في طريقه لعمله، قُتل بدون سبب، من فئة نتوقع أنها تنتمي للإسلام وتدّعي الجهاد في سبيل نصرة الإسلام! أسأل هؤلاء ومن يتعاطف معهم كيف سيكون موقفهم أمام الله يوم العرض الأكبر عندما يُسألون عن دم حسن وأمثاله؟ ما هو الجواب؟ لم يكن حسن في معركة تصيب وتخطئ وإنما كان رجلاً مسلماً مسالماً يعبر الطريق لعمله وفجأة أجهزوا عليه وأراقوا دمه المعصوم..!
إن المتأمل في فتن هذا الزمان يلحظ أنها فتن لم تكن في السالفين من الأمة، فقد صارت الدماء المسلمة رخيصة ليس عند أعدء الإسلام فحسب، بل عند المسلمين أنفسهم! شعائر تُقام وعقوبات تُجرى في أمور بسيطة بينما إراقة الدم المسلم لا يأبه به هؤلاء المدّعون منافحتهم عن هذا الدين والذود عن حياضه!! لقد بات لزاماً على مؤسساتنا التربوية أن تعمل وفق منهج علمي لا عاطفي لتصحيح أي مفهوم مغلوط، دون التحقير أو التسفيه لفئة مخالفة، وإنما يكون كل عملنا لوضع الجيل في المسار الفكري الصحيح، فمن الملاحظ أنه عندما يكون تصحيح مسار ما مصحوباً بتخطئة مسار آخر فإن النتيجة تشكيك المتلقي في صدق النوايا، وهذه حقيقة يجب الانتباه لها، وأن نكون مدركين لخطورة تجهيل الآخرين مهما كانوا، ليكون هدفنا فقط معرفة الحق والدعوة إليه.
ومن أجمل ما يكون في مثل هذه الظروف تواصلنا مع الآخرين حتى ولو كانوا مخالفين لنا فكرياً وهذا يُثبت حسن النوايا وصدق التوجه، وأننا ننشد الحق وندافع عن الحق ونريد الصلاح للأمة ليس إلا.
الإسلام دين عظيم واضح لا يمكن أن يكون إلا للرحمة والرأفة وعمار الأرض، ولم يكن يوماً سافكاً للدماء مخرباً للديار مهلكاً للحرث والنسل.
لذا فسؤالي لهؤلاء المساكين عن أي إسلام ينافحون؟!
لا نقول إلا: اللهم أهد كل ضال وأنر بصيرته.
والله المستعان.
almajd858@hotmail.com